السنة تمورنوا “من فوق” وتشيعوا “من تحت”*

/سامر زريق- الرائد نيوز/

كلما جرى الحديث أو النقاش عن انهيار التأثير السني في المعادلة السياسية الوطنية بعد انسحاب الرئيس سعد الحريري، شعر بعض القادة السنة والنواب والزعماء المناطقيين بالإهانة، وسارعوا الى الإنكار والتأكيد على أن الطائفة – الأمة ولادة، وأن التمثيل السني متوفر. وهذا صحيح، إنما نظرياً فقط.


فالأزمة ليست في التمثيل بل في حجم التأثير، وفي تقليد النخب السنية لنظرائهم الموارنة، مقابل وجود فئة من الطبقة الشعبية السنية تزداد اتساعاً تعمل على استلهام نموذج الشيعية السياسية في تحويل مدنهم الى موئل للرعب بكل أشكاله ونماذجه.

التشخيص الخاطئ
لعل أكثر المنزعجين من كثرة الحديث عن تراجع الحضور السني في الساحة السياسية هو النائب فيصل كرامي، ربما لأنه أكثر من يسأل عن الموضوع في إطلالاته الإعلامية، انطلاقاً من كونه سليل بيت سياسي كان تقليدياً منافساً دائماً على الزعامة حتى قبل قيام دولة لبنان. ومن بعده النائب فؤاد مخزومي ذو الطموح السوريالي في أن يكون رفيق الحريري الثاني، بالإضافة الى آخرين طبعاً.


بيد أنهم كلهم ينطلقون من أن التشكيك هو بحجم التمثيل بما يصيبهم مباشرة، في حين أن أصل النقاش غير ذلك تماماً. لا يستطيع أحد أن يشكك بالحيثية التمثيلية لأي نائب سني، ولا برئيس الحكومة نجيب ميقاتي بمعزل عن عدم ترشحه في الانتخابات النيابية الأخيرة، ولا أيضاً بدور وحضور الوزراء التكنوقراط السنة في الحكومة، وأبرزهم المفاجأة السارة وزير البيئة ناصر ياسين الذي أثبت أن عضويته في كل المسوادت الوزارية كانت ضربة معلم.


المشكلة الحقيقية هي في انعدام التأثير السياسي، حيث تحول السنة من شريك الى تابع يتوسل المشاركة في اللعبة السياسية عبر الندب الإعلامي. وهذا ما لم يتعرض للسنة قبلاً إلا إبان طور الولادة القيصرية لكيان لبنان الكبير على يد الداية الفرنسية.


ليس نحن أو المعلقين عبر شبكات التواصل الاجتماعي من نقول ذلك، بل هذا ما تثبته الوقائع وخاصة الدولية منها. كل الموفدين الدوليين الذي قدموا الى لبنان في الآونة الأخيرة إما أنهم امتنعوا عن لقاء شخصيات سنية، أو أنهم التقوا بعضهم لقاءات برتوكولية من باب حفظ ماء الوجه ليس إلا.


آخر الحصاد كان في الزيارة الأخيرة للرسول الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان، الذي جال على الزعماء والأقطاب، واستثنى السنة الذين مثلوا في حضرته في قصر الصنوبر. كما أنه امتنع عن زيارة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي رغم مظلة الدعم الفرنسي الكبيرة له. وفي ذلك اعتراف فرنسي دولي بانعدام تأثير مقام رئاسة الحكومة في العملية السياسية.

التنازلات المؤلمة
ما يزيد الأمر سوءاً، هو انجراف النخب السنية نحو المناصب بشكل غير مسبوق. لا ريب أنه من حق أي شخص أن يطمح وأن يسعى لتحقيق طموحه. بيد أنه لم يحدث سابقاً في تاريخ لبنان المعاصر أن كان هناك عدد كبير جداً من الطامحين لرئاسة الحكومة، بعضهم معلوم، وأكثرهم غير معلوم لأنهم يسوقون لأنفسهم في الغرف المغلقة والدوائر الدبلوماسية. والحال نفسه ينطبق على المقاعد الوزارية والى حد ما وظائف الفئة الأولى.


ثمة مقولة لبنانية خالدة أن كل من يولد مارونياً هو مرشح طبيعي لرئاسة الجمهورية، والحال أن هذا الفيروس انتشر لدى النخب السنية التي لا تبالي بموازين القوى المحلية، وفي الوقت عينه تفتقر الى الطرح السياسي المتين، وهذه أبرز نقطة ضعف عند السنة حالياً، إذ لطالما تميزوا بقدرتهم على اجتراح الحلول والتسويات في اللحظات المفصلية.


وعندما تغيب الأفكار وينعدم التأثير يصبح لزاماً على أي سني يريد الوصول الى رئاسة الحكومة تقديم تنازلات قاسية ومؤلمة وهنا بيت القصيد. فما نفع الجلوس في السراي الحكومي من دون امتلاك القدرة على اتخاذ القرار في أدنى التفاصيل؟ وهذا ما يحول رئاسة الحكومة من مقام سياسي رفيع المستوى الى وجاهة لا طائل منها. المثال الأوضح على ذلك يتمثل في رئيس الحكومة السابق حسان دياب، ماذا جنى من رئاسة الحكومة؟


لا شك أن هذا النموذج حاضر في أذهان أعضاء نادي المرشحين، لكن يظنون أنفسهم أكثر حنكة ودهاء، فترى الواحد منهم يسعى الى تحقيق طموحه مهما كان الثمن. من الأمثلة على ذلك ما يفعله وزير الداخلية بسام مولوي بحق مدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان دون النظر الى تأثير ذلك على مؤسسة قوى الأمن، والتي يتجاوز عمرها عمر الكيان اللبناني.

الحصن الأخير
انعدام الوزن السياسي أدى الى تحول دار الفتوى الى مرجعية سياسية للسنة. لم تكن السعودية لتقف خلف الدار وتدعمها في الوقت الذي تقوم فيه بتقليص نفوذ المؤسسة الدينية داخل المملكة إلا لأنها تعلم أن دار الفتوى هي المؤسسة السنية الوحيدة تقريباً من ناحية علم المؤسسات. فضلاً عن خطابها الوطني الوسطي والمعتدل الذي تميزت به تاريخياً، والذي منح مفتي المناطق حضوراً فاعلاً مكنهم من لعب أدوار هامة في لحظات حساسة أمنياً واجتماعياً وثقافياً.


وإذا ما عدنا الى التاريخ، فإن دار الفتوى ورجال الدين السنة لم يتصدروا واجهة الأحداث إلا لحظة تأسيس دولة لبنان، وكذلك في ثمانينيات القرن الماضي حين برز المفتي حسن خالد كزعيم ديني – سياسي ملأ الفراغ الذي نشأ عقب نفي الرئيسان صائب سلام وتقي الدين الصلح، ومن ثم اغتيال الرئيس رشيد كرامي. ولتبيان مدى أهمية ما تقوم به دار الفتوى يكفي الانتباه لتحولها الى هدف ثابت للإعلام المقرب من حزب الله الذي لا يتورع عن هدم أي مؤسسة من أجل سيادة مشروعه الخاص ومؤسساته.

غابت النخب فحضر قطاع الطرق
أما على الصعيد الشعبي، فإن الأزمة الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية التي أصابت لبنان كانت بمثابة نقطة تحول في المجتمعات السنية، حيث انسحبت النخب من الواجهة، وحصلت موجة هجرة واسعة وغير مسبوقة للأدمغة والكفاءات الشبابية. وهذا ما أتاح المجال لأمراء الأحياء وقطاع الطرق لبسط سطوتهم وبلطجتهم، وضرب الأمن الاجتماعي في المناطق السنية، لتصبح نسخة رديئة عن المناطق ذات الأكثرية الشيعية.


في السنوات الأخيرة تعالت الأصوات والنداءات من قلب الضاحية الجنوبية من أجل تخليص أهلها من نفوذ العصابات وأعمالها. وصولاً مؤخراً الى الصرخة التي خرجت من الغبيري غداة معركة إمرة الأحياء ومداخيل القمار بين عائلتين. والحال نفسه تقريباً موجود في المناطق السنية، إنما الفارق هو في كثرة الأجنحة واللاعبين ومن ورائهم المشغلين، بما يسمح بتعدد الولاءات والاستفادات، ويجعل ذرية الجرائم والأعمال غير القانونية تتوه في زحمتها.


في الشهر الماضي وحده، جرى اكتشاف عمليتا اغتصاب، لكن ذلك لا يشكل سوى رأس جبل الجليد، إذ يتم التداول همساً في أروقة الشارع الطرابلسي وجواره عن الكثير من الأعمال المشابهة وخاصة في الأحياء الشعبية الفقيرة، والتي يجري التكتم عليها ومحاولة حل ما نجم عنها عبر الزعامات “الأحيائية”. (المعلومات مأخوذة من مختار في التبانة، ومختار في الحدادين لكنهما رفضا إعطاء تصريح).


ناهيكم عن الأتاوات وترويج المخدرات، بالإضافة الى صالات القمار الصغيرة المتناثرة هنا وهناك، وأعمال المراهنات الإلكترونية، وخاصة في كرة القدم، والتي توسعت كثيراً لسهولة الدخول عليها عن بعد. لم تصل المناطق السنية الى مستوى الخطورة الذي بلغته المناطق الشيعية، لكنها تسير في نفس الطريق. لذلك فهي لا تحتاج الى خطة أمنية بقدر ما تحتاج الى خطة اجتماعية محكمة ببعد أمني تشترك فيها مختلف الفئات المجتمعية.

*العنوان مقتبس من مقولة للرئيس صائب سلام عندما سئل عن سبب تأليفه حكومة من خارج الوسط السياسي التقليدي، فأجاب: إنها ثورة من فوق حتى لا نفاجأ بثورة من تحت. وفوق تعني النخب، أما تحت فالمقصود بها العامة وهي الطبقة الأكبر.

اترك ردإلغاء الرد