السنة بين القيادة والغوغائية وإعادة استجرار مآسي الماضي
/سامر زريق-الرائد نيوز/
لعله من أصعب الظواهر في علم الاجتماع السياسي افتقاد مجتمع ما للديناميكية الفكرية التي تتيح له إنتاج نخب يمكنها أن تقود الرأي العام في اللحظات الصعبة والحساسة والمفصلية. وهذا ما ينطبق عليه معنى الفقر الحقيقي. فالفقر ليس مادياً أو رقمياً فقط، بل أيضاً معرفياً وثقافياً. والأخير هو الأخطر في حياة وتاريخ الشعوب والمجتمعات، وهو ما يعاني منه سنة لبنان في السنوات الأخيرة.
كتلة عاطفية هائمة
سنة لبنان الذين لطالما اعتبروا أنفسهم امتداداً حقيقياً لـ”الطائفة – الأمة” في العالمين العربي والإسلامي، تحولوا فعلياً من “ركن الدولة” وعامودها الفقري، الى كتلة عاطفية هائمة على وجهها، تبحث عن مكان لتفرغ فيه هذه العاطفة المشحونة بالمظلومية. فأصبحت الغوغائية سمتها الطاغية حسبما ظهر في أكثر من موقف ومناسبة.
لكن، وللأمانة، لا غرو أن يكون السنة على هذا الشكل السطحي من الأداء السياسي المجتمعي، في ظل انسحاب النخب التي يمكن التعويل عليها الى قوقعتها، وتدثر القسم الباقي منها، وهو الأحدث عهداً بالسياسة، برداء الشعبوية الذي صار موضة عالمية رائجة.
يقال أن التظاهر أمام دار الفتوى في عائشة بكار اعتراضاً على زيارة السفيرة الأميركية دوروثي شيا هو حق ديموقراطي، ولا جدال في ذلك. بيد أن ما تسرب من بعدها عما يدور في الأروقة المغلقة داخل الدار وخارجها، عن محاولة تحجيم مفتي الجمهورية عبد اللطيف دريان، وإلزامه بما يجب قوله، يعطي فكرة واضحة عن سبب الهشاشة السياسية غير المسبوقة في التاريخ المعاصر لسنة لبنان.
إذ ثمة من دخل على خط العاطفة المشبوبة المترعة بالألم على غزة وما يتعرض له أبناؤها وأطفالها ونساؤها إبادة جماعية، واتخذ من الشعبوية نهجاً في محاولة استغلال الشعور العام بالغضب والكراهية تجاه أميركا والغرب كله، من أجل تحقيق أهداف صغيرة وبائسة.
رسائل الغوغائية
لمعرفة مدى بؤس وصِغر حجم الأهداف وأصحابها يجب وضع الاعتراض في سياقه الصحيح. فالسفيرة الأميركية دوروثي شيا تجول منذ عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول الماضي على مختلف المقرات السياسية. وقبلها زارت تقريباً كل المناطق اللبنانية، بما فيها بعلبك التي يسيطر حزب الله على تمثيلها بالطول والعرض. وفي كل زياراتها قبل وإبان الطوفان لم يحدث شيئاً، حتى أنها أكلت ورقصت وكانت موضع ترحيب جماهيري أينما حلت. لكن، فجأة، وبقرار من مكان ما، نزل الى الشارع بضعة أشخاص بتحريض مسبق جرى على ميادين شبكات التواصل الاجتماعي لمنعها من لقاء المفتي عبد اللطيف دريان.
المُراد من هذه الحركة هو إظهار السنة بأنهم غوغائيين، وفي الوقت عينه إحراج مفتي الجمهورية، والنيل من رصيد الدار السياسي الذي بدأ دريان بمراكمته، منذ انسحاب الرئيس سعد الحريري من الساحة السياسية، ضمن مساعيه لإخراج السنة من حال اليُتم السياسي الذي شعروا به، وهو ما نجح به بشهادة الأصدقاء و”الأعتقاء” معاً. تجدر الإشارة الى أنها الزيارة الأولى لسفير أميركي الى دار الفتوى منذ أمد بعيد، وهذا ما يجب التوقف عنده ملياً لمعرفة خلفيات الحركة الاعتراضية على الزيارة.
ثمة من أراد إرسال رسالة للأميركيين بأن مفتي الجمهورية ليس شريكاً سياسياً مناسباً، كما الدار من خلفه، وأبعد منهما السنة أجمعين. وإذا ما أراد الأميركيون الحديث في السياسة فعليهم أن يتحدثوا مع أصحاب البلاد الحقيقيين، القابضين على القرار السياسي والجماهيري فيه، والذين بإمكانهم في أي لحظة تحريك الجبهة في الجنوب وتسخينها أو تبريدها، كما بإمكانهم إنزال جحافلهم الى الطرقات. أما السنة فليسوا بشركاء، وليس لهم من الأمر شيئاً، إلا ما يجود به عليهم أصحاب القرار، وهؤلاء هم من يختارون من يرضون عنه للحديث باسم السنة عندما يكون هناك حاجة لإضفاء طابع وطني مزيف على صفقة ما.
هل تساءل أحد عن سبب عدم تجمع ولو 3 أشخاص فقط للاعتراض على زيارة السفيرة الأميركية لرئيس مجلس النواب. قبلها بأيام قليلة، زار مستشار الرئيس الأميركي لشؤون الطاقة أموس هوكشتاين لبنان، وجال على عدد من المرجعيات والشخصيات السياسية برفقة السفيرة شيا. هل اعترض أحد؟ مع أن هوكشتاين هو ضابط احتياط في الجيش الإسرائيلي كما يعرف الجميع. لم يخرج أحد ليقول له شيئاً، لماذا؟ لأنه يتحدث ويتحاور ويتفاوض مع أصحاب البلاد الحقيقيين، سواء كان مباشرة أو مواربة.
لذلك نجح هوكشتاين في ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، وفق المصطلحات المدونة في الوثيقة التي وضعت لدى الأمم المتحدة، ونجح في مسالك أخرى، وأوشك على النجاح في ترسيم أو تثبيت الحدود البرية أيضاً. لو سألنا أين النخب السياسية السنية من كل النجاحات التي حققها هوكشتاين، ماذا سيكون الجواب؟ هنا بالضبط يمكن تبين مدى صغر حجم أهداف الذين يحاولون فرض وصاية على مفتي الجمهورية.
إذ أنه في الوقت الذي يقوم فيه أطراف معينة بالتفاوض على قرار البلاد ومستقبلها مع القوى الإقليمية والدولية المؤثرة، ينشغل بعض السنة بـ”الحرتقة” على بعضهم من أجل خلق نفوذ في المجلس الشرعي أو محاولة التأثير في توجهات وقرارات دار الفتوى، دون الالتفات لما يرسم لهم ومن يفاوض عنهم. أي عبث هذا؟
المسألة السنية
لا يكتمل السياق السني إلا بالعودة قليلاً الى الوراء، لاستذكار بعض محطاته التي تثبت عمق التحولات الراديكالية عند النخب والجمهور. منذ انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، استخدمت الرومانسية السياسية التي برزت في ساحات “الثورة” وميادينها لتقويض الوجود السني في بيروقراطية الدولة من القمة الى القاع، حتى صار السنة على هامش القرار تماماً، ومن بقي منهم في مركز إداري مهم نسبياً يتعرض يومياً لحملات افتراء وشيطنة.
وبعدما كانت جحافل الجماهير التي تهتف “شيعة شيعة” هي التي تمارس الشغب بأنواعه، انسحبت بقرار، وأخلت مكانها للسنة، فصاروا رماة المجلس النيابي وساحات التظاهر على أنواعها وأهدافها. لم يسأل أحد أين ذهبت الجماهير الأخرى، ولماذا تعرضت المصارف وآلات سحب الأموال فيها للتحطيم في الأماكن السنية الطابع. وحتى عندما أراد المسيحيون ذات مرة إرسال رسالة قاسية للشيعة بأنهم لا يمكنهم التفرد بحكم البلاد، حينما قررت الحكومة تأخير العمل بالداوم الصيفي، وضع السنة أنفسهم في الواجهة وكأنهم هم المستهدفين، فيما الحقيقة غير ذلك، وطفت على سطح شبكات التواصل مصطلحات ومفردات منفرة تعود الى عصور سحيقة.
كل ذلك لم يكن سوى حلقات متوالية لإظهار السنة بأنهم غوغائيين وغير أهل للحكم ولا للحوار. وهذا ما يعلمه جل النخب السنية إن لم يكن كلهم، لكنهم يصمتون لا لعجزهم عن التأثير في سيكولوجية الجماهير، بل بسبب التداخل الفظ بين النشاط الاجتماعي والعاطفي والسياسي، حيث الشعبوية أداة العاجزين عن تقديم رؤية سياسية حقيقة أو مشروع سياسي متماسك. وعندما نتحدث عن النخب، نقصد بذلك أولئك الذين هم خارج التمثيل السياسي لكنهم يمتلكون القدرة على التأثير في القيادات السياسية وقراراتها، ومعهم السياسيون الجدد ممن كان يعول عليهم لإحداث الفرق.
أما القيادات التقليدية فأغلبهم منسحب الى الظل، ومن بقي منهم يكافح من أجل البقاء، بعدما قضت الأزمة الاقتصادية على أدوات السياسة التقليدية، وأربكتهم التحولات الإقليمية الهائلة فصار لزاماً عليهم التمازج مع سيكولوجية الجماهير ولو بحدها الأدنى.
حذف الصوت السني
السؤال الذي يطرح نفسه: من هي الدولة التي بإمكانها إيقاف حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني في غزة؟ أميركا طبعاً. وبالتالي فإن الاعتراض الذي لا يمكن استثماره سياسياً، يصبح سيفاً مسلطاً على من قام به، لأن هناك أطراف أخرى هي التي ستعمل فيه استثماراً بالسالب على حسابهم. ربما يبدو الفعل صغيراً، أو قد يستصغره البعض، لكنه حتماً له مدلولات سياسية عميقة. أول الغيث كان قرار السفارة الأميركية بالإحجام عن زيارة دار الفتوى، وعدم خروج السفيرة في زيارات إلا عند الضرورة.
ماذا كان سيقول مفتي الجمهورية للسفيرة شيا؟ كان المفتي دريان سيؤكد على جميع المسلمات العربية والإسلامية، والتي عادت وأكدت عليها القمة العربية والإسلامية الاستثنائية بزعامة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. وهنا بيت القصيد، إذ ثمة من حذف الصوت السني من القائمة، من أجل تكريس بقاء بيروت عاصمة لمحور الممانعة، وأجندته التي تختلف تماماً عن الطروحات العربية.
في النصف الثاني من ثلاثينيات القرن الماضي، سعى مفتي القدس الشيخ أمين الحسيني للتحالف مع ألمانيا بهدف استخدامها من أجل إيقاف الهجرة اليهودية الى فلسطين، وإقامة نوع من توازن القوى بين بريطانيا الداعمة للحركة الصهيوينة، وألمانيا الصاعد نجمها بقوة حينذاك. لكن الأخيرة هي من استخدمته عملياً لكسب تعاطف وتأييد المسلمين، خاصة بعد غرقها في المستنقع الأفريقي ضمن الحرب العالمية الثانية، ولم يتح له لقاء القيادة الألمانية إلا في 28 تشرين الثاني 1941. ورغم نُبل وعِظَم الهدف الذي سعى الشيخ أمين الحسيني من أجل تحقيقه، إلا أنه في نهاية المطاف اتهم بتأييد النازية وأفاعيلها، ومنح البريطانيين ذريعة لزيادة دعم الحركة الصهيونية على حساب الأبناء الحقيقيين للأرض الفلسطينية، وصولاً الى إعلان دولة إسرائيل عام 1948.
ويدور الزمان دورته، ويعمد بنيامين نتنياهو، أحد أسوأ رؤساء الوزارة في التاريخ القصير والدموي لإسرائيل، حسب توصيف أكثرية المؤرخين اليهود، وأكثرهم تطرفاً، حسب توصيف كبريات الصحف العالمية حتى ما قبل طوفان الأقصى، الى اتهام المفتي أمين الحسيني عام 2015 بتحريض هتلر على تنفيذ “الهولوكوست”. ولولا مسارعة المؤرخين الغربيين واليهود، والوكالة اليهودية نفسها، الى دحض هذا الاتهام، واستنكاره جملة وتفصيلاً، لالتصق بياقة كل الفلسطينيين.
وعليه، فإن الحكمة والحصافة والقدرة على استشراف المستقبل، كلها عوامل أساسية ينبغي عدم تغييبها في اللحظات الحساسة في حياة الأمم والشعوب، مثلما هو الحال اليوم، حيث تبدو المنطقة برمتها وكأنها في خضم لحظة تأسيسية، أو بركان يصب حممه على خرائط المنطقة، كي لا نعيد تكرار أخطاء الماضي. تقريباً أمضى سنة لبنان ثلاثة عقود ونيف في الاعتراض على إلحاقهم بدولة لبنان الكبير فماذا حصل؟