هل تبيع إيران حركة حماس؟

/سامر زريق- الرائد نيوز/

 

“لقد كان رجل الدين الأكثر فاعلية في تاريخ الشيعة في تشكيل الهوية الوطنية والسياسية للإيرانيين. عرف منذ شبابه بشخصية شيعية إيرانية يؤمن بالهوية الإيرانية الأصيلة.. إن الوحدة الوطنية والتلاحم القومي المتجذر في إيران مدين للصفويين”.

مقطع من رسالة د. علي أكبر ولايتي، الأمين العام للصحوة الإسلامية، الى ملتقى إحياء ذكرى الشيخ صفي الدين الأردبيلي بتاريخ 10 أغسطس/ آب 2023، نشرتها وكالة “تسنيم الدولية للأنباء” الإيرانية شبه الرسمية.

الدين أداة السيطرة

للأمة الفارسية ثأر تاريخي قديم الأزل مع العرب منذ أن زالت دولتهم على يد المسلمين الذين كانوا عرباً. ولأن الأمة الفارسية تتميز بنزعة قومية كبيرة، بقي هذا الثأر مهيمناً على عقلها الجمعي، رغم تعاقب العصور والأجيال، وتقلب الدول والنظم على الهضبة الفارسية.

يكفي إجراء مقارنة بسيطة بين حقبة الشاه، وبين الحكم الخميني الممتد حتى يومنا هذا، كي نتبين مدى تشابه السياسات الخارجية الطيبة المظهر، الخبيثة المخبر، العدوانية دوماً في الحقبتين رغم التناقض الأيديولوجي الهائل بينهما، حيث الأول كان علمانياً، فيما الثاني إسلامياً.

وإذا كان الشاه قد استولى على الجزر العربية الثلاث، طنب الكبرى والصغرى وأبو موسى، في الخليج العربي، وكان يطالب بالبحرين أيضاً، فإن الخميني ورث وخلفاؤه من بعده احتلال الجزر وأطماع الأمة الفارسية في البحرين وما بعدها في أوضح تعبير عن استمرارية الثأر التاريخي للأمة الفارسية مع العرب، كل العرب.

الأمر الذي يثبت أن الدين هو وسيلة، وأداة تعبئة وتحشيد أيديولوجية أثبت التاريخ مدى فاعليتها التي لا تنضب أو تتراجع، بل على العكس تماماً. كان السوفيات يحاربون الدين بلا هوادة، انطلاقاً من شعارهم الأثير بأن الدين هو أفيون الشعوب. والحال أن الدين هو أفيون السيطرة على الشعوب وترويضها وصهرها في بوتقة واحدة.

صفي الدين: سني استخدم التشيع سياسياً

ولعل الدلالة الأكثر وضوحاً على ذلك هي أن الشيخ صفي الدين الأردبيلي، الذي يعود اليه إرث التشيع الصفوي الذي يتبناه نظام ولاية الفقيه في إيران، كان شيخاً سنياً شافعياً صوفياً، وكان متبعاً للشيخ الزاهد تاج الدين الجيلاني.

عمِل صفي الدين وأبناؤه وأحفاده من بعده على دمج التصوف بالتشيع، حيث استغل أن الأناضول وجوارها كانت حينذاك تموج بالبدع الدينية، ولا سيما مع التدفق الهائل للقبائل التركمانية ذات العقائد الإسلامية المبهمة، من أجل صهره في سبيل تحقيق نفوذ سياسي.

وهو ما تحقق عن طريق حفيده من الجيل الخامس إسماعيل الصفوي الذي أسس دولة الصفويين الذائعة الصيت. فرضت السلالة الصفوية التشيع جبراً وقسراً على السكان، وبخاصة الشاه عباس الذي وصل الى حد نقش “خادم عتبة الأمام” على خاتمه السلطاني. كان التشيع، أو بمعنى أدق خلق مذهب إسلامي جديد، هو السبيل الوحيد لإدامة دولة الصفويين، وحمايتها من الزوال على يد السلطنة العثمانية.

وعندما أقام الخميني نظام ولاية الفقيه أعاد استخدام الإرث الصفوي لتبيت أركان حكمه أولاً، ثم لتصدير الثورة الى البلاد العربية لزعزعة كيانها وهدم أنظمتها. لو كان نظام الملالي يريد حقاً الدفاع عن المسلمين أو المظلومين في العالم كما يدعي، لكان الأولى به أن يقف بجانب جيرانه في القوقاز وآسيا الوسطى، أو بجانب أهل البوسنة والهرسك الذين تعرضوا لحرب إبادة تشبه التي تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني، لكنه لم يفعل شيئاً أبداً لأن الهدف هو الثأر التاريخي من العرب.

الطوفان السياسي الإيراني

يشكل المدخل السابق الأساس لفهم السياسات الإيرانية الخارجية، وكيف يفكر عقلها السياسي ويتصرف ويتحرك، ومعه أذرعه الطويلة، في خضم حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة وشعبها والشعب الفلسطيني بأسره.

لا غرو من التذكير دوماً بأن حركة حماس ليست فصيلاً إيرانياً، إنما حليفة لها، وفي ذلك فرق كبير. وهذا ما سعى وحاول قادة حماس توضيحه خاصة في الأيام الأخيرة، بعدما لمسوا خذلان طهران وأذرعها، ولا سيما فيلق القدس، وأن شعار “وحدة الساحات” مطاط جداً ومتعدد الأوجه والتفسيرات حسب الطلب والحاجة.

كما ينبغي التذكير أيضاً بالفجوة السورية بين الحليفين، والتي يصعب جسرها حتى اليوم، فالمصالحة ما بين حماس والنظام كانت شكلية. ذلك أنه ثمة معارضة واسعة داخل بنية الحركة التنظيمية لهذه المصالحة، وأبعد منها داخل أروقة تنظيم الإخوان المسلمين الذي تنتمي اليه حماس، الأمر الذي ترجم بامتناعها عن فتح مكتب لها في دمشق.

لا ريب أن إيران هي المستفيد الأول والأبرز من طوفان الأقصى من كل النواحي. فهي من ستجلس على طاولة السياسة لتحصد ثمار الطوفان وما بعده من صمود حركة حماس. ذلك أن الأخيرة هي تنظيم مصنف إرهابي لدى أغلب دول القرار والتأثير. فضلاً عن أن أي دولة لن تقبل مفاوضة حماس جهاراً في ظل هذا المناخ العالمي المنحاز ضد القضية الفلسطينية.

ليس ذلك فحسب، بل إن إيران ستحصد أيضاً ثمار طوفان الأقصى البعيدة المدى في المجتمعات العربية والإسلامية، والتي كانت تنظر الى إيران كخصم عقائدي، أو بعين الريبة في الحد الأدنى. كلنا نلاحظ اليوم مدى انحسار المشاعر الشعبية العدائية تجاه إيران وحزب الله، وعودة الشعارات القديمة والأدبيات التي سادت الشارعين العربي واللبناني قبل ظهور الأنياب الإيرانية على حقيقتها بعد حرب يوليو/ تموز 2006.

استثمار الغضب

هنا لا بد من التنبه بأن عودة المصطلحات الممانعة الآفلة الى القاموس الشعبي ليس فعلاً تلقائياً مجرداً وصافياً، بقدر ما هو نتيجة استثمار إيران وحزب الله في الحالة الجماهيرية المتعاطفة مع غزة، وأن فلسطين هي القضية المركزية للعرب والسنة، حيث تسعى طهران عبر أدواتها المختلفة، السنية و”الوطنجية” وغيرها، وبخبث شديد، الى تأطير الشارع السني في لبنان والدول العربية، والعمل على توجيه غضبه تجاه المذبحة الفلسطينية المستمرة، بغية تفجيره في وجه الدول العربية وأنظمتها، وتكبير الهوة التقليدية الموجودة دائماً بين الشعب والمؤسسة السياسية في كل دول المنطقة، بما فيها إيران نفسها.

الأمر الذي قد يؤدي الى انفجار بعضها، مثل الأردن أو مصر، وهو ما يتمناه العقل السياسي في طهران ويسعى اليه حثيثاً. إذ أن اختراق المجتمعات العربية، وتأليب شعوبها على أنظمتها هو هدف ثابت يندرج ضمن الثأر الفارسي التاريخي مع السنة.

المفارقة أنه في الوقت الذي تحاول فيه إيران توجيه غضب المتظاهرين العرب ضد أنظمة بلدانهم، يمنع على الشعب الإيراني تنظيم أي تظاهرة أو حتى تجمع رمزي لنصرة الشعب الفلسطيني، بسبب هاجس الخوف الذي يقض مضاجع الملالي، ولا سيما بعدما قذفت جماهير كرة القدم تمثال قاسم سليماني بأحذيتها وما طالته أيديها منذ أسابيع قليلة.

وعموماً فإن ذلك ليس من صنع إيران بقدر ما هو إعادة استنساخ لسياسات نظام حافظ الأسد ومن بعده ابنه بشار، والذي كان يفرض على الجماهير في لبنان الخروج في مظاهرات لدعم القضية الفلسطينية في حين أنه كان يحظر تماماً اجتماع فردين أو أكثر في سوريا.

تاجر السجاد الفارسي

أبعد من ذلك، فإنه ما كادت الحرب الإسرائيلية على غزة تندلع حتى سارع وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان الى زيارة المنطقة وعرض خدماته التفاوضية، حتى أنه وصل الى نيويورك متحدثاً باسم حماس. كل ذلك يحمل مؤشرات غاية في الخطورة على حماس.

فالكل يرى ويلمس حجم التحيز الغربي الهائل وغير المسبوق للسردية الإسرائيلية على حساب القضية الفلسطينية. وهذا ما دفع بإيران الى التنصل من أي مسؤولية سياسية أو عسكرية أو مالية عن طوفان الأقصى، وإطلاق دعوات التفاوض المتتالية. حتى الآن ورغم شلالات الدماء والقهر الفلسطينية، إلا أنه لم يحن بعد أوان السياسة.

وعندما تأتي لحظة الجلوس الى الطاولة أو “البازار”، وهي آتية حتماً، فالحرب لن تستمر الى ما لا نهاية، ثمة خشية كبيرة من أن يبيع تاجر السجاد الفارسي، كما يحب نظام الملالي أن يوصّف نفسه، حركة حماس بثمن مجزٍ، ولا سيما أنها ليست فصيلاً من صنع إيران بل حليف.

ربما يصعب على البعض تقبل ذلك أو توقع حصوله، بل أن الغالبية قد ترى عكسه تماماً، خاصة وأن إيران شديدة التمسك بالأوراق التي تملكها، إلا أنه يجب التمعن بالواقع المعاش وما يحصل على الأرض. بعيداً عن شعار وحدة الساحات الأجوف، ثمة الكثير من المؤشرات التي تؤكد استمرارية السلوكيات الإيرانية الموجهة ضد السنة وبلادهم ومجتمعاتهم.

فلِمن لا يعلم أصدرت الحكومة الإيرانية مؤخراً قراراً منعت فيه تدريس اللغات الأجنبية في المناهج التربوية، وخاصة اللغة العربية، في قرار ينضح بالعنصرية الإثنية، ويتسرب من بين حبره إرهاصات الثأر التاريخي الذي أشرنا اليه.

الهدف: أرض الحرمين

ليس ذلك فحسب، بل إن الأذرع الإيرانية الطويلة في العراق استصدرت في حمأة حرب الإبادة الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني قراراً قضى بسجن رغد ابنة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين لمدة سبع سنوات، بنفس التهمة التي جرى من خلالها تصفية الوجود السني في النظام وهي “اجتثاث البعث”، وذلك بسبب تغريداتها فقط، مع ما يشكله هذا الفرمان القضائي من دوس على مشاعر فئات واسعة من السنة لا تزال تعشق صدام وتستشعر بوطأة غيابه.

علاوة على تهديدات بعض أفرع الحشد الشعبي بضرب الكويت والإمارات رداً على حرب غزة. فما علاقة هذان البلدان وشعبيهما بما يجري على أرض غزة؟ علماً أن الشعب الكويتي يأتي في طليعة الشعوب التي تضامنت مع الفلسطينيين.

وهذا ما يدل على أن وراء الأكمة ما ورائها من نوايا فارسية تضمر السوء للعرب، وأن تخريب أوطانهم ولا سيما دول الخليج هو الهدف. وما الكويت والإمارات إلا مدخل نحو السعودية. تبقى أرض الحرمين الشريفين هي الهدف والمبتغى لتكريس الثأر الفارسي التاريخي.

لا يقولن أحد أن هذا ليس أوانه، بالعكس تماماً، هذا هو التوقيت المناسب. فلا يغترن أحد بإعادة انبعاث قوات الفجر، لأن حزب الله سيستخدمها بعد أن تضع الحرب أوزارها في الداخل اللبناني بعد نفخ حجمها وتكبير جماهيرية الجماعة الإسلامية، من أجل تحقيق أهدافه مشروعه الخاص، الذي ما هو إلا إيراني يروم الثأر من السنة العرب، وسنة لبنان يبدون اليوم صيداً سهل المنال.

وكما قال كارل ماركس: “من لا يتعلم من التاريخ محكوم عليه بتكراره”.

 

اترك ردإلغاء الرد