دولة حزب الله الموازية: ابتزاز وتركيب فساد وصواريخ إعلامية

/سامر زريق – الرائد نيوز/

تقول الباحثة في علم الاجتماع اللبنانية ريتا فرج في كتاب “الدولة في التنظير العربي والإسلامي: التأصيل والتحديث” بأن “قضية الدولة تصدرت موقعاً رئيساً في نقاشات المفكرين والباحثين العرب في العقدين الأخيرين. وتزايد الانهمام الفكري والنقدي الراهين بـ”سؤال الدولة” إثر الاضطرابات السياسية والأمنية التي أعقبت الربيع العربي. وتشير فرج الى أنه “ما ينبغي ملاحظته أن عوائق التحول الديموقراطي في العالم العربي عديدة ومعقدة، وقد أدت الى إعادة إنتاج التسلط السياسي، الذي يستمد مقوماته من العلاقات المتوترة بين الدولة والمجتمع، وبين الدولة والأحزاب السياسية، وبين الدولة والمكونات الدينية والإثنية، وبين الدولة والدين، وبين الدولة وتدهور التنمية”.

والحال أن السؤال الأبرز الذي دائماً ما يطرح في لبنان في السنوات الأخيرة، ليس عن ماهية الدولة، إنما ما هي الدولة التي يريدها حزب الله؟ ذلك أنه الحزب الذي يهيمن على الدولة اللبنانية وقرارها ومؤسساتها، لكنه في الوقت نفسه لا يمثل الدولة، بل يتلبس بردائها حينما يريد، ويطرحه جابناً كي يبرز عضلاته حينما يريد.

توازن الازدواجية

تعريف الدولة وفق المفهوم الفلسفي العام الأكثر انتشاراً هو أنها “مجموعة من المؤسسات القانونية والإدارية والعسكرية التي يتم إنشاؤها من لدن جماعة من الناس بموجب عقد مشترك لفرض تنظيم حياتهم في كافة المجالان داخل مجال ترابي معين”. فيما أن لحزب الله مؤسساته الخاصة الموازية لمؤسسات الدولة، والأكثر قوة وحضوراً منها.

مع ذلك فهو يبقى بحاجة الى الدولة، ليس فقط من أجل التستر والاحتماء بشرعيتها عند الاقتضاء، بل لأنها تمثل بالنسبة الى أيديولوجيته أداة هامة وحيوية لتوطيد دعائم نفوذه، مما يجعله بما يمثل من قوة غير شرعية وفق علم الدولة في حالة ازداوجية واضحة. وتكمن مهارة حزب الله في الحفاظ على توازن هذه الازدواجية. فمتى انتفت أو ضعفت قدرته على تأمين التنفيعات والمغانم من الدولة، انفك عنه الموالون تباعاً. في حين أنه سيفقد المبرر الشرعي لوجوده في ظل وجود دولة قوية. وهذا ما ينطبق عليه تعريف الفيلسوف الألماني “نيتشه” للدولة بأنها “صنم” حذرنا من فتنته، ومن عَبَدَتِه.

بيد أن هذه المهارة الأيديولوجية ليست من نتاج حزب الله الخالص، بل هي أيديولوجيا إيرانية تفتق عنها ذهن ملالي إيران. وبعدما نجحوا في تطبيقها بحذق في بلادهم، عملوا على تصديرها مع ثورتهم. فانتقلت فكراً وسلوكاً الى العواصم التي طالتها أذرعها الأخطبوطية، بغداد وبيروت، وصنعاء ودمشق على الطريق.

يقول الباحث والمؤرخ اللبناني، عبد الغني عماد، في الكتاب نفسه آنف الذكر بأن “ثمة أكثر من صيغة معاصرة اليوم للمشروع الإسلامي في علاقته بالدولة، فالنسخة السلفية الجهادية تقطع مع مفهوم الدولة بصيغته المعاصرة، وتضع أولوية الجهاد على رأس مهامها لإقامة حكم الله. أما الصيغة الإيرانية لمشروع الدولة الإسلامية فتقطع مع الأمة وولايتها، لتؤسس نظرتها للدولة على منظومة ولاية الفقيه العامة، التي تقيم سلطة دينية تتمتع بالهيمنة الكاملة وصلاحية التكليف الشرعي، الذي يمتد الى خارج حدود الدولة حيثما وجد الشيعة المتصلون وجوباً بالمرشد “الولي الفقيه”.

ثيوقراطية رجال الدين

نزيد على المؤرخ الذي رحل عن دنيانا منذ سنوات باستخدام ملالي إيران التشيع كأداة دينية – سياسية، حيث صارت شرائح واسعة من مجتمعات سنية تدين لهم بالولاء السياسي. وفي هذا السياق لا بد من التذكير بأن النظام السياسي الإيراني استخدم النسخة الأكثر تطرفاً من الشيعية الإثنا عشرية. وهذا ما ذهب اليه العديد من المؤرخين والباحثين، وإن كان أبرزهم المفكر الإيراني الذي رحل عن دنيانا بظروف غامضة في حمأة ولادة النظام الخميني.

يعد شريعتي أحد أبرز المفكرين الإسلاميين المعاصرين، حاصل على دكتوراه في “علم اجتماع الدين” من جامعة “السوربون” الفرنسية الشهيرة. ويصنفه البعض بـ”ملهم الثورة الإيرانية” التي كانت إسلامية وشيوعية، وبعد خلع الشاه وهروبه خارج البلاد، قبض الإسلاميون على السلطة على حساب الشيوعيين بعد أن دعمتهم ورجحت كفتهم أميركا وحلف الناتو اللذان كانا يخوضان حرباً باردة مع الاتحاد السوفياتي.

عام 1964 أنشأ الفيلسوف ورجل الدين الإيراني مرتضى مطهري “منتدى نقاش” حمل اسم “حسينية إرشاد” كمؤسسة دينية حداثية في شمال طهران تهدف الى الترويج لمنظر إسلامي جديد مستساغ لطلاب الجمعات والمهنيين المتعلمين، واستقطبت أشخاصاً مثل علي خامنئي، وهاشمي رفسنجاني، ومحمد بهشتي.

هذه الطبقة من رجال الدين الساعين أحبت كتابات وأفكار شريعتي، وبراعته في استخدام المصطلحات الحداثية الغربية ضمن سردية ثورية إسلامية تبتغي العدالة الاجتماعية. ذلك أنها تناسب هدفها الأسمى وهو التخلص من نظام حكم الشاه. لذلك دعاه مهدي بازركان، الذي صار فيما بعد رئيس أول حكومة في النظام الخميني، الى إلقاء محاضرات في “حسينية إرشاد”. تلك المحاضرات اجتذبت جمهوراً هائلاً، لكنها أثارت حفيظة رجال الدين الذين اعتبروا المنتدى “منبراً للهرطقة”.

فتصور شريعتي للدولة وللتشيع نفسه كان مختلفاً عما يريد الملالي تسويقه، إذ وصف التشيع الصفوي الفارسي بـ”التشيع الأسود” القائم على ثيوقراطية طبقة رجال الدين الجشعة، والموغلة في الدم والفساد والفتاوى غب الطلب، والذي اعتبره نظيراً لـ”التسنن الأموي”. مقابل “التشيع الأحمر” أو “التشيع العلوي” على حد وصف شريعتي، والذي وضعه في خانة واحدة مع “التسنن المحمدي”، وهو التشيع الأصلي الذي يبدأ من الإمام علي بن أبي طالب، والذي يعني الثورة والعمل من أجل الناس للوصول الى خير المجتمع، أو بمعى آخر “المساواة المجتمعية”.

صواريخ إعلامية تغطي المغانم

يقول الفيلسوف الألماني (جورج فيلهم فريدريتش) هيغل أن غاية الدولة هي الوحدة الجوهرية بين الكلي والفردي “هي الغاية النهائية لها حق أعلى وأسمى من الفرد. ذلك لأن واجب الفرد هو أن يكون عضواً في الدولة”. هل ينطبق هذا التعريف بأي شكل من الأشكال على حزب الله، مرشداً وقيادات وعناصر وحتى جمهور؟

يظهر الواقع الحالي أن حزب الله الذي ما انفك عن الترويج الممهنج لفساد “الحريرية” وأركانها، فعمل على تشويه صورتهم وتصويرهم بأنهم “أباطرة فساد”، لم يترك درباً من دروب الفساد إلا وطرقه، لا بل أنه بلغ في ذلك مبلغاً من الإبداع العالمي لم يصل اليه سواه.

أكثر من شهر ووسائل إعلامه تشن حملة شعواء على أمينة سر لجنة المعادلات في التعليم قبل الجامعي، أمل شعبان، وتغدق عليها اتهامات الفساد والكسب غير المشروع. وكان القصد من هذه الصواريخ الإعلامية حرف الأنظار عن شبكة السماسرة التي أوقفها القضاء بتهمة المتاجرة بالشهادات والمعادلات وجلها من أنصاره مع شريكه في “الثنائي”. كلنا حفظ اسم أمل شعبان من شدة ما أسيء اليها، لكن هل يعرف أي منا اسم واحد على الأقل من تلك الشبكة؟

وفي الوقت الذي كان الملف الاتهامي قائم على 9 معادلات قانونية جرى تسهيل حصولها على المعادلة بسرعة مقابل المال، تم طي ملف الشهادات التي منحت للطلاب في بعض المؤسسات الدينية، وعددها بالعشرات، وقُبض عليها مبالغ طائلة. والفضيحة في حينها وصلت أصداؤها الى داخل أروقة الحكومة العراقية. لكن المعادلة هي أن الفساد في لبنان لا أب له إلا الحريري، في رمزية تطال السنة وحدهم، وكل من ينضوي معهم من الطوائف والمذاهب الأخرى. المثير هو الابتزاز المفضوح الذي أميط عنه اللثام في التسريبات، والذي يكشف كم الخداع والنفاق لأذرع حزب الله الإعلامية.

والحال نفسه مع وزير الصحة فراس الأبيض، الذي أخرج مستشفى رفيق الحريري من العناية الفائقة التي أدخله اليها حزب الله ورهطه، ويبذل جهداً هائلاً في وزارة الصحة لمأسسة العمل وإخراجه من دائرة الزبائنية والشخصنة. لكن عمله هذا أضر بزمر وعصابات اعتادت المتاجرة بصحة الناس ودوائها منذ سنوات، ولا سيما في عهدي وزيري الحزب الإلهي. من منا نسي فضيحة فحوصات كورونا والتي أنيطت بشقيق أحد وزراء الحزب وبمبلغ فلكي، ثم جرى إقفال الملف.

لذلك تواظب أذرعه الإعلامية على رجمه بصواريخ إعلامية لا تكاد تنتهي، وتسعى لابتزازه وتركيب ملفات الفساد بحقه دونما نجاح حتى اللحظة. وحسبما كشفت مصادر في وزارة الصحة ونقابة الصيادلة، فإن لحزب الله حصة واسعة من القطاع الدوائي عبر المستودعات التي بإمكانها الحصول على أدوية من مختلف العلامات التجارية، وبيعها أحياناً بأقل من سعر الشركة وبكميات أعلى من تلك التي تمنحها الشركة نفسها. وهناك الكثير من الأمثلة في وزارات ومواضع أخرى، لكن المجال يضيق على ذكرها. هل ثمة من يسأل أو من يهتم؟

مع الأسف الشديد لا. ذلك أن صواريخ الحزب الإعلامية على اختلاف أنواعها أسهمت في تقديم تغطية نارية لتحويله مؤسسات الدولة الى مزرعة للمحاسيب، ومغانم للأنصار، مع اتباع سياسات الابتزاز والوعيد بتركيب الملفات لكل من لا يدين له بالطاعة. تلك هي “دولة حزب الله”.

اترك ردإلغاء الرد