“مرونة” طرابلس: ما بين الهدوء والرصاص والتزوير والمخدرات..

جنى الدهيبي – المدن
تمضي طرابلس يومياتها كحال مختلف المناطق اللبنانية. إذ تتكرّس فيها “المرونة” بوجهها السلبي. والمرونة في الأصل هي قدرة المجتمعات على التعامل مع الظروف العصيبة، وتحمّل الصدمات والتكيّف المستمر، والانطلاق بسرعة لتجاوزها. لكنها في لبنان تبدو سلوكًا من التسلّي والاستسلام لكل مفاعيل الانهيار التي ضربت مفاصل حياة اللبنانيين. وذلك مقابل مبادرات ومحاولات للنهوض، تهدف للتعايش مع الواقع، وإنكاره أو المكابرة عليه أيضًا.
مشاهد طرابلس
في طرابلس، تسير عجلة الحياة بوتيرة تبدو طبيعية، وهو ما يتجلى في تفاصيل الحياة الصغيرة واليومية، وفي مختلف المشاهد. تفتح أسواق الطعام والخضار الشعبية لاستقبال الزبائن، ويتكيف معظم السكّان مع دولرة الأسعار وجموحها. حتى الفقراء صاروا يرددون تلك الجملة التي منحت التجار صكًّا لاستغلال الأزمة والناس: “ما هي بالدولار أرخص من قبل”. وإن كان هذا الواقع فرض الحرمان عليه، وضاعف انعدام جودة الحياة، والتقنين القاسي في مختلف حاجاتهم، ودمّر صحتهم النفسية والجسدية.
كذلك الحال بالنسبة لطلاب المدارس الرسمية وأسرهم في المدينة، الذين يشكلون غالبية الطلاب في المناطق الشعبية. وهم يعيشون تسرّبًا مدرسيًا مقنّعًا مخيفًا، وشبه انعدام في التعلم منذ نحو ثلاث سنوات، وينهون العام الحالي بامتحانات هزلية، تكرّس مفاهيم جديدة للأمية في لبنان. وسبق أن حذّرت اليونيسف من تداعيات إغلاق المدارس ووقف التعلم، وأثره على سلامة الأطفال والطلاب ورفاههم العقلي والجسدي. ناهيك عن دوره المحوري في ارتفاع معدلات العنف وعمالة الأطفال وتسولهم، وانتشار المخدرات والسلاح وتزويج القاصرات.
في المقابل، تبدو الحياة كأنها تسير بوتيرة طبيعية في طرابلس. في النشاطات الثقافية، كان آخرها معرض الكتاب (رغم تواضعه)، وفي بعض الفعاليات والندوات والمشاريع الناشئة وورش بناء وافتتاح بعض المطاعم ومراكز الترفيه والملاعب.
قبل أيام مثلًا، رست في حوض الحاويات في مرفأ طرابلس سفينة الحاويات CMA CGM Melisand، بعد توجهها من الصين، واحتفى كثيرون بالحدث كإنجاز كبير باعتبارها من بين أطول السفن التي ترسو في مرفأ المدينة، إذ بلغ طولها 335 مترًا وعرضها 43 مترًا، وأفرغت حوالى 700 حاوية قبل أن تتوجه إلى تركيا.
أحداث مقلقة
في المقابل، يكاد لا يمرّ يوم في طرابلس من دون إطلاقٍ للرصاص نهارًا وليلًا، في إشكالات فردية ومتقطعة، تسفر عن سقوط جرحى وأحيانا قتلى. ففي غضون 24 ساعة قبل يومين، لقي مواطن حتفه بطلق ناري في رأسه، محلة الشّلفة في أبي سمراء، قبل أن يتوارى مطلق النار عن الأنظار. وقبله قتل مواطن بالسلاح في إشكال فردي في باب التبانة. وهما من قائمة قتلى تكاد لا تنتهي في إشكالات فردية في طرابلس، نتيجة انتشار السلاح غير المرخّص.
وحدث تطور من نوع مختلف حول قضية اللاجئين السوريين. فقد أعلنت شعبة العلاقات العامة في قوى الأمن الداخلي، عن إلقاء القبض على عصابة تقوم بتزوير إقامات لأشخاص من الجنسية السورية مقابل 70 دولارًا عن كل إقامة، وحصلت على عدة صور من هذه المعاملات. وهو ما يشي أن هذا الملف سيبقى أسير الفوضى والتخبّط السياسي، وغياب الخطة الوطنية في كيفية مقاربة ملف اللجوء.
مخدرات..
ومقابل هذا الواقع الذي يحصد الأرواح وتعجز الأجهزة الأمنية عن وضع حدٍ له، يتوسّع نطاق انتشار المخدرات في طرابلس، في الأحياء الشعبية خصوصاً، التي تسودها الفوضى والعشوائية على نحو خطير، خصوصًا أن الظاهرة تتطوّر من الترويج للمخدرات إلى صناعته والاتجار به. وهو ما تجلّى قبل فترة بإلقاء قوى الأمن الداخلي القبض على مجموعة تخزن المخدرات بكميات كبيرة، وتسعى إلى تهريبها إلى الخارج. ناهيك عن أعمال السلب والسرقة التي تتفشّى بطرابلس، وعموم لبنان.
هذا الوقع المتناقض، يوحي أن الانهيار في لبنان، ومن نموذج طرابلس التي كانت وما زالت من أفقر مدنه وأكثرها هشاشة، يأخذ أشكالاً نموذجية من التفتت الاجتماعي. فلا هو صدام وتفلّت مطلق، ولا هو مسار نحو النهوض مجددًا. وهذا من أكثر أشكال الفوضى عبثية.