«تحية إجلال لبيروت»

/فاطمة عبدالله- الشرق الأوسط/

في المبنى الواقع على ما عُرف بخطّ التماس الفاصل بين «بيروت الشرقية» و«بيروت الغربية»، إبان ويلات الحرب؛ بدت الصحافية اللبنانية لجهة الأم والفرنسية لجهة الأب، دلفين أبي راشد درمنسي، منهمكة بالتوضيب. اشتعل الجوّ في الخارج بحرارة الصيف، وفي الداخل شهدت الجدران على اشتعال كبير جراء التقاتل الأهلي. نحن هنا في منطقة السوديكو، وعلى جانب تقاطع إشارات السير، يكمن مبنى «بيت بيروت» المعروف أيضاً باسم «البيت الأصفر»، الشاهد على دموية مرحلة مقيمة أبداً في الذاكرة. لتسعة أشهر، تحوّل هذا المكان المهيب معرضاً وجدانياً حرّك التنقّل في أرجائه قشعريرة الأبدان.

توضّب دلفين درمنسي، وهي مديرة وصاحبة فكرة معرض «ألو بيروت»، بقايا المعروضات، بما يذكّر بأغنية فيروز: «دايماً بالآخر، في آخر، في وقت فراق». تشرح لـ«الشرق الأوسط» عن رمزية المكان بالحديث عن العلاقة بالجذور. تصفه بـ«المتحف العام»، مع الإشارة إلى أنّ فضاء بيروت يفتقد المتاحف المفتوحة، باستثناء المتحف الوطني على بُعد أمتار. ترفع إصبعها إلى الأعلى وتقول: «لا سقف هنا. يدخل النور لعناق الظلمة، وهذا اختزال لواقع المدينة». تُحرّك الإصبع باتجاه آخر، حيث تطغى عتمة على زاوية تتسلّل منها خيوط شمس خجولة: «إنها زوايا القنّاصين. من هنا سدّدوا رصاصهم وأردوا ضحاياهم».

مديرة معرض «ألو بيروت» دلفين أبي راشد درمنسي (حسابها الشخصي)

المكان طافح بالذكريات، ثريّ بالعِبر. تسعة أشهر و«ألو بيروت» يحاول إتاحة الثقافة للجميع، بجهود وثّقت موضوعات تتناول الفنون والتحوّل الاجتماعي والتعليم والصحافة والعدالة. «أردنا أن يشعر كل زائر بأنّ هذا المكان له. هذه المساحة هي بعض وجودنا الإنساني الحرّ. الناظر في كل زاوية، لا بدّ أن يلمسه شيء. المبنى مطلّ على شوارع بيروت وحركة ناسها. بجهود (المهندسة المعمارية والناشطة في الحفاظ على التراث اللبناني) منى الحلاق، والتي لها أيضاً دورها المهم في نجاح المعرض، أُعيد ترميمه في عام 2014، واليوم نُفرغه من المعروضات بعدما استمال زوّاراً من مختلف المناطق».

شرائط تحاكي ذاكرة المدينة (الجهة المنظمة)

تنتشر رائحة تمسّ الوجدان فيمتلئ بالأسى حيال ما حدث. رائحة الموت والخسائر والصدمات. تشقُّق الجدران وفوضى المشهد، الندوب والحفر، الصمت الموجع، والقشعريرة، يقابلها أبرز معالم المدينة، من «صالون أفرام» إلى «فوتو ماريو»، وسينما «ريفولي»… فيكتمل لقاء المتناقضات في محاولة لفهم ملابسات الهوية. لا تعود صور «النيغاتيف» المنسية سوى انعكاس لوجوهنا التائهة أسوة بمصائرنا.

تحمل درمنسي الجنسية الفرنسية، فتحظى بـ«امتياز» توضيب الحقائب متى اندلع اضطراب في بيروتها الحبيبة التي غَرَفت عشقها من علاقتها بجدّتها. ورغم أنها لا تجيد الكلام باللغة العربية، تراها مكانها. وما اختيار «ألو بيروت» عنواناً للمعرض الفريد، سوى محاولة منها لاستفهامها. تقول: «تلي كلمة (ألو) إجابات عدة. حين تَرفع السمّاعة للتواصل، ستنتظر رداً وتفاعلاً. جميعنا ننتظر من بيروت إجابة تتعلق بوجودنا».

الصور المنسية كاختزال للتيه الراهن (الجهة المنظمة)

يروي أرشيف الرائد الحالم من القرن الماضي، بروسبير غي-بارا، الذي كان منسياً، وتطلّب جمعه عشر سنوات من تحت أنقاض ناديه الليلي المهجور «كاف دو روا»، تاريخاً يُروَّج له برومانسية عند الحديث عن سنوات بيروت الذهبية. بالنسبة إلى دلفين أبي راشد درمنسي، «الأزمة قديمة، لكنها لم تكن مُكتَشفة إلى أن انفجر الوضع في 2019». تدرك أنّ ذاكرة البلد قصيرة ومواطنيه يفتقرون إلى المعرفة بتاريخهم الخاص الذي أدّى إلى الحرب الأهلية. «ألو بيروت»، فكرة بدأت شخصية وتطوّرت بجهود جماعية لفنانين ومصمّمين وصحافيين وباحثين، بتمويل منظمات غير حكومية. لأشهر، اتَّسمت ملامح الصحافية الفرنسية – اللبنانية بالقلق ولم تشعر بالرضا الداخلي إلا بعد إسدال الستائر.

أرادت جمع الشغفين: الصحافة والفنون. حمل جهدها الكبير عَبَق الوفاء لجدّتها ومنزلها في شارع مونو البيروتي. على لافتة اتّكأت بجانب جدار تعمّد المعنيون عدم ترميمه ليُذكّر المارّين بقسوة الكراهية، بعثت أبي راشد درمنسي برسالة إلى الجدّة تصارحها فيها بأنّ ذاكرتها المرتبطة بما قبل الحرب، وتلك المرتبطة بالحرب، كانت غريبة تماماً عنها، والعمل على تنقيبها يحمل «نكهة خاصة». كلام حميمي، نزعت عنه الحفيدة طابعه الشخصي لتشاركه مع مَن أتوا إلى معرض حرَّض على التساؤل والاكتشاف والتحاور مع المدينة، رغم الإحساس بقيد لا فكاك منه وبالمجهول واللغز.

مشهدية سينما «ريفولي» في جانب من المعرض (الجهة المنظمة)

تزدحم مشاريع في رأس الشابة العاشقة لمدينة أمها، تصبّ جميعها في السعي العنيد لرفض الإحباط. تدرك أنّ الدعم لا يتأمّن بين يوم وليلة، وطَرْق الأبواب من دون فتحها هو قدر العازمين على المجازفة، لكن لا مفرّ من استجابة ما. تقول: «تعتاد المنظمات غير الحكومية على مدّ الفنون ضمن مساحة خاصة بالدعم. لم يكن سهلاً الإقناع بتبنّي مشروع يعيد خلق المساحة المهجورة، ويكون متاحاً للجميع كفضاء حرّ. من خلال القوى الحيوية الآتية من تخصّصات متنوّعة منها البحث والتصميم والفن والأزياء وصناعة العطور والإنتاج وعروض الشارع… تكاتفت الأيدي من أجل إلقاء تحية إجلال عليكِ يا بيروت».

مشهدية «فوتو ماريو» في جانب من المعرض (الجهة المنظمة)

تماماً كما دوّنت في ختام رسالتها المُوجّهة إلى جدّتها، مُلهمتها؛ فإنّ «ألو بيروت» إعلانُ دلفين أبي راشد درمنسي الشغوف عن الحب والمشاعر المختلطة. وهو أيضاً إقرار بوجودنا لنقول للمدينة إننا هنا، نعمل ونستمع ونفكر لاستكمال مسيرة التغيير، خطوةً خطوة.

اترك ردإلغاء الرد