هل تختلف أدمغة متحدثي العربية عن الناطقين بالألمانية؟

الطريقة التي تتشكل بها أدمغة المتحدثين بالعربية تختلف عن متحدثي الألمانية (The Times)

سوسن مهنا – اندبندنت

في فيلم الخيال العلمي الأميركي “أريفال” (Arrival) إصدار 2016، يعرض قصة عالمة اللغة لويز بانكس (إيمي أدامز)،  والتي تُطلب فجأة  لمهمة التواصل وفك لغز الحديث الذي يتخاطب به الفضائيون الذين وصلت سفنهم إلى الأرض ولا تعرف أهدافهم، فتبدأ لويز في مرحلة التواصل مع الكائنات الفضائية داخل المركبة، وتحدث تقدماً بمساعدة الخبراء حول العالم.

وخلال الرحلة البحثية لعالمة اللغة، من أجل خلق جسر للتواصل مع الأغراب، تكتشف بعد أن بدأت تتعلم وتفهم لغة الكائنات الفضائية، أن مقاربتها للعالم وإدراكها للزمن تغيروا بشكل مختلف ومغاير عن السابق.

فهل التحدث بلغات مختلفة له تأثير في رؤيتنا للعالم؟  وهل يمكن للغة أن تغير من طريقة تفكيرنا؟

أفعال لغوية

لطالما تساءل العلماء في ما إذا كانت اللغات المختلفة تعكس قدرات معرفية مختلفة، وبرزت خلال السنوات الماضية دلائل مبنية على التجربة والاختبار، تشير إلى أن اللغة الأم لها تأثير مباشر، في الطريقة التي يفكر بها الإنسان، في شتّى أمور العالم بما في ذلك المكان والزمن.

ويرى بعض علماء اللغة، أنها جزء لا يتجزأ من العديد من سمات الفكر التي لم يدركها العلماء من قبل، في حين يؤكد بعض الباحثين أن اللغات المختلفة تمنح متحدثيها قدرات إدراكية متباينة، وبالتالي تمنحهم سلوكاً مختلفاً، وترتكز فرضية سابير-وورف (عالمي اللغويات إدوارد سابير وبنيامين ورف) الأميركيين، على أن أفكار وأفعال الفرد يقررها اللسان الذي يتحدث به، وكل الأفكار والأفعال مكبّلة بقيود لغوية، في حين تقول فرضية أخرى إن اللغات تقوم بقولبة تفكيرنا وسلوكنا إلى حدٍ ما.

تقول الأكاديمية في مجال علم النفس المعرفي بجامعة “ستانفورد” ليرا بوروديتسكي “يتواصل البشر مع بعضهم بعضاً في جميع أرجاء الأرض مستخدمين حزمة مذهلة من اللغات تناهز السبعة آلاف لغة أو ما يقارب ذلك”، وتضيف تعود الفكرة القائلة إن الألسنة المختلفة ربما تمنح متحدّثيها مهارات معرفية مختلفة إلى مئات السنين، وارتبط هذا الرأي منذ ثلاثينيات القرن الماضي بالعالمين اللغويين سابير-وورف، اللذين قاما بدراسة الكيفية التي تتباين فيها لغات البشر، مشيرين إلى فرضية مفادها بأن اختلاف طرق التخاطب يفضي إلى تباين في طرق التفكير.

ومع أن أفكارهما لقيت حماسة كبيرة في بداية الأمر، ظلت هناك مشكلة صغيرة واحدة وهي غياب شبه كلّي للدلائل التي تدعم هذه الادعاءات، وما إن حلت السبعينيات إلا وفقد الكثير من العلماء اهتمامهم بتلك الفرضية، وسرعان ما تخلوا عنها بمجرد ظهور مجموعة جديدة من النظريات فرضت نفسها على المشهد اللغوي، تدعم فكرة “عالمية” اللغة والفكر، لكن وبعد عقود عدة برزت أخيراً دلائل ملموسة تعتمد على التجربة، تفيد بأن اللغات تتحكم في طرق التفكير.

وتقوض الدلائل الجديدة نظرية “العالمية” التي صمدت سنين طويلة، بل تقدِّم رؤى جديدة باهرة تشرح أصول المعرفة وكيفية تشكل الواقع، ولهذه النتائج روابط مهمة في مجالات القانون والسياسة والتربية والتعليم.

معالجة دماغية

في مقال للكاتبة كاترين إيفيرت نشر على موقع “دويتشه فيله” الألماني في(نيسان) الماضي، تتناول فيه دراسة تحدثت عن طريقة معالجة الدماغ للغتين العربية والألمانية، وأراد علماء من معهد “ماكس بلانك” للعلوم الإدراكية والدماغية الألماني في لايبزيغ معرفة ذلك، فقام فريق بقيادة طالب الدكتوراه والمؤلف الرئيس للبحث، شوي خو وي، بفحص المادة البيضاء في أدمغة 47 من المتحدثين الأصليين باللغة العربية ومثلهم من متحدثي الألمانية، وعند اختيار الموضوعات، تأكد الباحثون من أنهم قاموا باختيار أشخاص أحاديي اللغة الأم بمعنى أن لديهم لغة أصلية واحدة فقط، فإضافة إلى لغتهم الأولى، لم يعرف المشاركون سوى بعض الكلمات باللغة الإنجليزية.

واكتشف الباحثون أن المتحدثين الأصليين للغة الألمانية لديهم اتصال أقوى بين مراكز اللغة وفي الشبكات العصبية المسؤولة عن اللغات في نصف المخ الأيسر، وباتجاه الفص الجبهي في الجزء الأمامي من الدماغ، وقالوا إن الأمر ربما يرتبط بالمعالجة النحوية المعقدة للألمانية، والتي ترجع إلى ترتيب الكلمات والأفعال بشكل مختلف عن مثيله في العربية، ويمكن شرح ذلك أيضاً من خلال طبيعة تركيب لغة الألمان، حيث تكون هذه المناطق مسؤولة عن معالجة بنية الجملة المركبة بشكل مختلف.

ويلخص الباحث في قسم علم النفس العصبي في معهد “ماكس بلانك” والمؤلف المشارك للدراسة التي نُشرت أخيراً في مجلة(NeuroImage)  وموقع المعهد ألفريد أنواندر، النتائج قائلاً “دراستنا تقدم رؤى جديدة حول كيفية تكيف الدماغ مع المتطلبات المعرفية، بعبارة أخرى، تتشكل شبكتنا الهيكلية لفهم اللغات الأخرى في المخ من خلال لغتنا الأم”.

ويتابع أنواندر القول “أظهر المتحدثون الأصليون للغة العربية ارتباطاً أقوى بين نصفي المخ الأيمن والأيسر من الناطقين بالألمانية”، مضيفاً “فاجأتنا النتيجة كثيراً، لأننا كنا نفترض دائماً أن طريقة تعامل المخ مع اللغات بصفة عامة تسير بطريقة واحدة حول العالم، بين المتحدثين باللغات الأم المختلفة، باختلافها وبصرف النظر عن طبيعتها”، وأن “الارتباط بين المناطق المختلفة المسؤولة عن اللغة في المخ يحدث بالقوة نفسها”.

عقول مختلفة

وطلب فريق العلماء من المشاركين الاستلقاء على جهاز مسح خاص بتصوير الرنين المغناطيسي، وينتج صوراً عالية الدقة للدماغ، والحصول على معلومات حول الروابط بين الألياف العصبية. وباستخدام هذه البيانات، تمكن الباحثون من معرفة مدى قوة ارتباط مناطق اللغة الفردية في الدماغ مع بعضها البعض، واكتشفوا وجود اختلافات في التوصيلات بين أماكن اللغة في الدماغ بحسب اختلاف لغة الشخص الأم.

ولاحظت الدراسة أن الطريقة التي تتشكل بها أدمغة المتحدثين بالعربية تختلف عن متحدثي الألمانية، وذلك من بين 94 شخصاً شاركوا فيها، حيث أشارت إلى أن الصور التشريحية لأدمغة أصحاب اللسان العربي تظهر وجود ارتباط أكبر بين نصفي الدماغ مقارنة بالألسنة الألمانية، كما أظهرت وجود دوائر عصبية مختلفة.

في الخطوة الثانية من الدراسة التي تجرى حالياً، سيقوم الباحثون بتحليل ما يحدث في أدمغة المتحدثين باللغة العربية أثناء تعلمهم الألمانية، حيث يقول أنواندر “متحمسون لرؤية كيف تتغير شبكة الدوائر العصبية الدماغية أثناء تعلم لغة جديدة”، لافتاً إلى أنه من المهم “التأكيد أن هذه الدوائر المختلفة لمعالجة اللغة في المخ لا تعني مزايا ولا عيوباً للمتحدثين، ولكنها مختلفة فقط في شكل الارتباط في ما بينها، ليست أفضل في لغة أو أسوأ في لغة أخرى”.

ويأمل العلماء مع نهاية البحث في استخدام النتائج لتحسين طرق تعلم اللغات الأجنبية.

اترك ردإلغاء الرد