المصريون يدفنون موتاهم مرتين… وأحيانًا أكثر!

/ميرهان فؤاد- درج/

ليست هذه المرة الأولى التي تُزال بها المقابر للتوسع العمراني، فقد أزيلت بعض المقابر لإنشاء طريق صلاح سالم بالقاهرة، لكن هذه المرة ذهبت الجرافات بعيدأ جداً بشكل بات يهدد الهوية البصرية للقاهرة التاريخية.

في الفيلم المصري عروس النيل (1963) الذي أخرجه فطين عبد الوهاب، من بطولة لبنى عبد العزيز ورشدي أباظة، أصيب أباظة أو المهندس سامي الذي كان يحفر بجوار قبور عرائس النيل، ليعثر على البترول، بلعنة لأنه يعبث بتراث قدماء المصريين وبقبورهم، وما كان منهم إلا أن أرسلوا له “هاميس” آخر عروس نيل ليكف عن العبث بالموتى، والاعتداء على أجداده.

أتذكر هذا الفيلم بحزن فيما أقرأ عن إزالة جبّانات، أو مقابر القاهرة التاريخية، لتوسعة الطرق، وبناء محاور، وجسور، هذه المقابر التي تضم رفات شخصيات تاريخية، وفنية، وثقافية، وأشخاص عاديين أيضاً قلقت الجرافات منامهم، واضطر أهلهم لتكفين رفاتهم مرة أخرى لدفنها بعيداً من قلب المدينة. وفي خضم الزوبعة المثارة حول ما يسميه البعض “سرقة” معتنقي فكرة “الأفروسينتريزم” الحضارة المصرية، وتزوير التاريخ القديم، هناك تاريخ أحدث قليلاً يُزال، ومدينة تتغير ملامحها، وأمهات يفجعن بأبنائهن ثانيةً بعد ميتتهم الأولى، وبعض هؤلاء ربما توفي حديثاً ولم تتحلل أجسادهم بعد. فلماذا مثلاً لم تعلن الحكومة خطتها مبكراً قبل دفن هؤلاء، لكن المعلوم أن الرئيس عبد الفتاح السيسي يكره دراسات الجدوى.

يقول الشاعر محمود درويش: هزمتك يا موت الفنون جميعها/ هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين/ مسلة المصري/ مقبرة الفراعنةِ/ النقوشُ على حجارة معبدٍ/ هزمتك وانتصرت/ وأفلت من كمائنك الخلود/ فاصنع بنا واصنع بنفسك ما تريد.

طالما كان الموت مقدساً عند المصريين، الموت هو الخلود والحياة الأبدية، أو كما ينص كتاب الموتى “عسى أن أدخل أرض الأبدية… عسى أن أصل سالماً إلى أرض الخلود، لأنه انظر يا ربي هذا ما أمرت لي به”.

مدافن “سيّارة”
يحرص المصريون على زيارة موتاهم دائماً في الأعياد، والمواسم، فـ”للميت حرمة”، أتذكر ذلك وأنا أقرأ منشوراً على “فيسبوك” يعود إلى آب 2022 يطلب المساعدة في الوصول إلى أصحاب المدافن، الذين لم يُعرف لهم عنوان، لأنها ستنقل إلى مدينة 15 مايو. وقبل ذلك بعامين نشرت الجريدة الرسمية قرار رئيس الوزراء رقم 1429 لسنة 2020 باعتبار مشروع إنشاء محور الفردوس وحتى الربط مع امتداد محور المشير طنطاوي من أعمال المنفعة العامة. وكان هذا التاريخ بداية لإزالة المقابر الواقعة بمنطقة القاهرة التاريخية.

كان فتح المدافن الواقعة بالسيدة نفيسة أمراً مؤلماً لعائلة الصحافية مي خلف، اتصلت التُربية أو مسؤولة المدافن بالعائلة لتبلغهم بالورق المطلوب وسعر تكلفة فتح المدافن ونقل الرفات إلى مقبرة أخرى. حضر فرد من كل أسرة في عائلة مي، حاملين أكفاناً جديدة ليكفّنوا بها رفات أهلهم، يملأهم الأسف لإزعاج موتاهم، والحنق من فكرة نقل الرفات، والأسى من تجديد الحزن، ومن فكرة فتح المدفن على قريب شاب لهم مدفون منذ وقت قريب، يشعرون بالضيق لأن مدافنهم الجديدة في العاشر من رمضان، ستجعل زيارة موتاهم بمثابة رحلة سفر، فالمصريون معتادين على زيارة المقابر باستمرار في الأعياد، والمواسم وأحياناً في نهاية الأسبوع. إضافة إلى صغر مساحة المقابر الجديدة، فعُوض أصحاب المقابر التي تبلغ مساحتها 50 متراً، بأخرى مساحتها 25 أو30 متراً. ولم تحصل عائلة مي على أي تعويض، بل على العكس، فقد تكلفوا مادياً عبء النقل، ونفسياً عبء دفن موتاهم مرتين.

ليست هذه المرة الأولى التي تُزال بها المقابر للتوسع العمراني، فقد أزيلت بعض المقابر لإنشاء طريق صلاح سالم بالقاهرة، لكن هذه المرة ذهبت الجرافات بعيدأ جداً بشكل بات يهدد الهوية البصرية للقاهرة التاريخية.

مدينة الموتى المعروفة باسم القرافة تعود إلى عهد دخول العرب لمصر، وتأسيسهم لمدينة الفسطاط، بعدها بنت كل قبيلة فيها مقابرها. وأصبحت شيئاً فشيئاً تضم مقابر كل ما حكموا مصر بعد ذلك. وتغطي المقابر ست مناطق: القرافة، الصحراء، السيدة نفيسة، باب الوزير، باب النصر، زينهم. هذه القبور تروي تاريخ مصر، ويرقد بها ملوك وسلاطين وأولياء وفنانين وأدباء، طراز معماري فريد يُجرى هدمه ويضيع معه جزء كبير من تاريخ مصر.

د.أبو العلا خليل الباحث الإسلامي يقول لـ”درج”: “إن أهل مصر كانوا معتادين على زيارة المقابر، كانوا يزورونها فرادى وجماعات، وكان لهم مرشد يسمى المرشد الزائر، بمثابة دليل سياحي، رجل عليم بالقرافة، وبمن دفن فيها، وله برنامج للزيارة، له بداية ونهاية يبدأ بالسيدة نفيسة بنت الحسن وينتهي بالإمام الشافعي، ويقول إنه كان من الأدب مع الشافعي ألا يُزار أحداً بعده. وكان هناك مؤرخي كتب المزارات، وأهل مصر مازالوا محبي لزيارة القبور والأولياء”. ويقول إن هذه المنطقة تزخر بالمنشآت التاريخية، والأثرية، فمثلاً خلف مسجد السيدة نفيسة هناك أبواب تاريخية مثل باب الخلاء، وباب الصحراء، ورباط أم العادل كلها آثار وأماكن تاريخية لكنها آثار جديدة غير مسجلة. ويرى خليل أن “ما يحدث من إزالة للأماكن التاريخية بمثابة إجرام”.

وكانت د.جليلة القاضي أستاذة التخطيط العمراني وهي من أبرز المدافعات عن جبانات القاهرة والتي قامت بدراستها منذ 35 سنة، قد أصدرت بياناً عام 2020 بعد إزالة عشرات المدافن في قرافة المماليك تعبر فيه عن صدمتها، وصدمة المهتمين بالتراث من التجديد العمراني على حساب هذه المنطقة التاريخية التي تضم قبوراً لسلاطين وأمراء المماليك وأسرهم، وتعتبر من أروع ما أنتجته العمارة المملوكية في العالم الإسلامي. و جبانة المماليك، قد أنشئت في العصر المملوكي، وضمت مدافن لشخصيات تاريخية وسلاطين. كما أصدرت مبادرة أنقذوا جبانات القاهرة التاريخية نداء لرئيس الجمهورية يطلبون منه صون الكنوز التاريخية.

ما التراث في نظر الدولة؟
تكمن الإشكالية في أن الحكومة تهتم بالجبانات المسجلة على قائمة الآثار وهي نسبتها قليلة للغاية لا تتعدى 1 في المئة، فالمباني غير المدرجة بوصفها مباني أثرية هي مقابر تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. د.جليلة القاضي تقول إن وزارة الآثار لا تعي معنى التراث، فلا تعتبر هذه المقابر تاريخية، على الرغم من أن منطقة القاهرة التاريخية والتي تحتوي على الجبانات التي تضم شخصيات مؤثرة في الفن والثقافة مثل الشاعر أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، ومحمود سامي الباوردي، وعلي مبارك، كلها مبان وشوارع مسجلة على لائحة التراث العالمي عام 1979. هذه المقابر التاريخية، جزء أصيل من هوية القاهرة، التي بات شكلها يتغير كل يوم وأصبحت غريبة على أهلها.

الرئيس السيسي أكد أن هدف هذه المحاور هو تخفيف الحركة على صلاح سالم، وقال إن مقابر “الشخصيات التي نقدرها ونحترمها، أو ذات أثر تاريخي لن تُمس”. لكن ذلك لم يمنع من إزالة مقبرة الأديب المصري يحيى حقي الذي أحب آل البيت، وكتب “قنديل أم هاشم” و”أم العواجز” والذي أوصى بدفنه في السيدة نفيسة.

وكانت عائلة حقي قد وجدت علامة إزالة (x) على مقبرته وأُبلغوا بضرورة بنقل الحضور لنقل رفاته إلى العاشر من رمضان، قامت ابنته بمناشدة السلطات بترك مقبرة والدها في رحاب السيدة نفيسة، وإنقاذ مقبرته أسوة بمقبرة الأديب طه حسين، الذي نجت مقبرته، من الإزالة بعد حملة شنها المهتمون بالتراث، وبالمقابر التاريخية، لكن أحداً لم يستمع لابنة يحيى حقي، وكتبت نهى يحيى حقى في كانون الأول 2022 على صفحتها على “فيسبوك” بعد نقل مقبرة أبيها “آسفة يا صاحب القنديل وعزائي أنك عند بارئك في رحمة الله وفي جنة الفردوس، أما الجسد ما هو إلا ثوب يخلعه الإنسان عند الموت، وذكراك ستظل ذكرى عطرة في جبين الزمان، بما قدمت وكتبت وتركت محبة وتقدير، لا يمكن أن يهدم مهما مرت الأيام فأنت في جبين الزمان واحد من عطر الثقافة والفكر والأدب والفن كله، وقنديلك مضيئ في أفق تراث وطنك مصرنا الغالية”.

وتقول نهى يحيى حقي لـ”درج”، “نُقلت مقبرة أبي إلى العاشر من رمضان، وغادر الجارة الغالية السيدة نفيسة، وهو الذي كان مولده في السيدة زينب”.

للمدافن رهبة، كنت أمر دائماً بمنطقة الإمام الشافعي، تمنيت مراراً زيارة المدافن، لكن لم أقوَ على ذلك، للمرة الأولى تغلبت على خوفي، وسرت في المنطقة، ربما لا أستطيع زيارتها مرة أخرى، يخبرني أحد الأطفال أمام مسجد الإمام الشافعي أن أذهب إلى الإمام الليثي، ويعرض عليّ أن يصطحبني إليه، ولكنني أفضل استكشاف الطريق بمفردي، يبدو الموت مألوفاً في المنطقة، حتى أن الاهالي تسكن بجوار المدافن، وعن ساكني القبور تقول د.جليلة القاضي في كتاب التحضر العشوائي “لقد لعبت القاهرة التاريخية دور الوعاء الذي يستوعب الزيادة السكانية والمهاجرين الريفيين الجدد، أما الشرائح الدنيا فلم تجد لها مكاناً في المساكن المتدهورة في المساكن المتدهورة للمدينة التاريخية فاتخذت من المقابر مسكناً لها”.

هناك أيضاً صانع الرخام الذي يُكتب عليه اسم الميت، وتاريخ وفاته، وبالجوار رجل نائم أمام مقبرة بقربه كمية كبيرة من الزهور الحمراء. بالجوار أجد مدفن الأديب أحمد تيمور باشا، صاحب موسوعة الأمثال المصرية.

وخلف مسجد الإمام الشافعي يقع حوش الباشا، أو مقابر العائلة الملكية، عائلة محمد علي، الذي أنشأه محمد علي باشا عام 1808، ودفنت عائلته بالمدفن، واستمر توسعة المدفن حتى القرن العشرين. بالجوار عائلات أرستقراطية، وشخصيات تاريخية وغير تاريخية.

ثمة منطقة أخرى فوجئ أصحابها بقرار إزالة مقابرهم ذويهم من منطقة الهايكستيب، لم يجد الأهالي مفراً من مناشدة الرئيس السيسي برفع الظلم عنهم، وترك رفات أهلهم وأرواحهم في نومتهم الأخيرة. زين عبد الشافي أحد أهالي المنطقة يقول لـ”درج”: إنهم أخطروا بإزالة المقابر، وطُلب منهم حصر لموتاهم، وهذه المقابر ليست مقابر عائلات، لكنها لأهالي المنطقة مجتمعين، وعُرض عليهم تعويض 70 لحداً ليجمعوا بهم كل المتوفين. حزن زين من فكرة فتح المقابر، لأن والدته توفيت قبل أشهر، كما أن أخاه توفي شاباً بسبب “كوفيد- 19”.

عبد الشافي ليس متأكداً مما إذا كان الأهالي سيحصلون على تعويض عن المقابر أم لا، ويقول إنه لا يعرف كيف يمكن أن يشتري قطعة أرض مخصصة للمدافن في هذه الظروف الاقتصادية الطاحنة، فـ”سعر المدفن بات يفوق ثمن شقة سكنية”.

اترك ردإلغاء الرد