7 أيار: ذكرى الانهيار الفعلي في لبنان

/سامر زريق- الرائد نيوز/

وتلك الأيام نداولها بين الناس. ثمة عدد من الذكريات التي تحمل معانٍ عميقة الأثر في تاريخ الأمم والشعوب، فتفرد أياماً خاصة لها للاحتفاء، أو لاستلهام العبر والاقتداء عندما تكون تلك الذكريات مريرة ومطبوعة بالآلام والدماء. والحال أننا في لبنان لو أفردنا لكل ما في ذاكرة الأمم اللبنانية أياماً خاصة، لكانت كل السنة عزاء مفتوحاً لكثرة المآسي التي مررنا بها.


بيد أن اختلاف التقييم لهذه الذكريات بين اللبنانيين، وصياغة كل جماعة لبنانية لتاريخها الخاص هو ما يحول دون ذلك. لتبقى لكل فئة لبنانية آلامها الخاصة التي تستذكر حصولها، بما يرسخ عدم اندماج اللبنانيين، واستحالة انبثاق ذاكرة جمعية وطنية يمكنها أن تعبر عن شعب منقسم إزاء كل حدث تاريخي أو آنٍ. حتى ذكرى تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي ما عاد متفق عليها، وكذلك حال ذكرى شهداء 6 أيار 1916، وقس على ذلك.



الجرح السني النازف
ومن الذكريات المختلف عليها هي 7 أيار 2008 حينما اجتاحت جحافل ميليشيا حزب الله شوارع بيروت وروعت الآمنين السنة، لتغدو ذكرى سنية الطابع حفرت مكانها بعمق في وجدانهم. إذ تمثل هذه الذكرى بالنسبة اليهم جرحاً لم يندمل بعد. جرح يفوق حجمه عدد القتلى والجرحى الذي سقطوا آنذاك، وأعمق أثراً من الكثير من المجازر والأيام المريرة التي تحفل بها ذاكرتهم.


كم هو أليم أن تجد جارك وابن حيك الذي تقاسمت معه الأفراح والأحزان، والذي سهرت معه في نفس الملجأ أيام الاجتياح الإسرائيلي للعاصمة بيروت، والذي عشت معه عناقيد الغضب وحرب تموز 2006، يمتشق سلاحه ويوجهه الى صدرك ويتعمد إذلالك مع عائلتك لأسباب ليس لك أي سهم فيها. أناس تخلوا عن الجيرة ودمروا كل حيز مشترك بينك وبينهم فقط من أجل تنفيذ أمر صدر من سرداب ما، انتصاراً لمشروع آتٍ من خلف الحدود، يعمل على تحويل أنصاره وخصومه على حد سواء الى فقراء، بالمال والمعيشة والعلم والثقافة.


والأسوأ من ذلك أنه بعد مرور 15 عاماً على هذه الذكرى، لا يزال أنصار هذا المشروع في لبنان يتعمدون الدوس على كبرياء السنة من خلال تذكيرهم الدائم بـ7 أيار، وتهديدهم بواحدة جديدة عند كل محطة سياسية، عوض الاعتذار عنها، واتخاذها يوماً لاستلهام العبر منه. فالتاريخ لا يذكر بأن أحداً انتصر على شعبه، بل قمعه وأهانه وحكمه بالحديد بالنار. كما أن التاريخ لا يذكر أن شعباً انتصر بعضه على بعضه الآخر، بل يندرج ذلك ضمن إطار الفتن. ومن لا يتعلم من تاريخه محكوم عليه بتكراره.


مثل فتنة عام 1860 بين الدروز والموارنة، والتي ما تزال ترخي بثقلها على العلاقة فيما بينهما، لأنه مذذاك وحتى اليوم، لم تحدث مراجعة حقيقية لهذه الفتنة، بهدف الوصول الى قراءة مشتركة بين طرفيها، تمهد لطي هذه الصفحة الأليمة نهائياً، بل اتخذها كل فريق أساساً بنى عليه سردية تاريخية تتناقض بشكل كامل مع الطرف الآخر، وتمنح الفرصة لكل متطرف راغب في صناعة رصيد سياسي لها باستثمارها، مثلما فعل جبران باسيل في قبر شمون منذ سنوات قليلة. والأمر نفسه يتكرر مع 7 أيار التي تتحول بتعاقب السنين الى أساس لبناء سردية سنية على خصام ونفور تامين مع الشيعة، وهذا ما سيكون له آثاره المستقبلية. لا يمكن أن تخطب وتتحدث كل يوم عن أهمية حماية البلد من فتنة سنية – شيعية، وأنت لا تزال تعتبر 7 أيار يوماً مجيداً، فهي الفتنة بأمها وأبيها وكل معانيها.

انتصار التطرف على الاعتدال
وتشاء الصدف أن يكون 7 أيار هو يوم عودة الجنرال ميشال عون من منفاه عام 2005، لتكتسب الذكرى رمزية مضاعفة تختزل كل معاناة لبنان وليس السنة وحدهم. فالحلف بين صاحبي الذكرى حزب الله والتيار العوني ذبح الديموقراطية في لبنان، وجعله أسير راديكاليتين: شيعية ومسيحية. والحلف ما بين هاتان الراديكاليتان هو عملياً من حكم لبنان وقاده نحو الانهيار الذي نعيش آثاره الكارثية. من دون إغفال إسهامات الآخرين، والتي مهما بلغ حجمها تبقى محدودة التأثير بمقارنتها مع ما فعله وابتدعه الحلف إياه.


وعليه، تمسي 7 أيار ليس ذكرى اجتياح حزب الله شوارع بيروت فحسب، بل ذكرى انتصار التطرف على الاعتدال، والغوغائية على العقل، ذكرى اغتيال القرار الحر في لبنان لدى المسيحيين والشيعة قبل السنة. فالتطرف الذي صنعه تحالف الراديكاليتان العونية والشيعية قضى على أي هامش اعتدال ومساحة التقاء، ولم يترك سوى أشكالاً مشوهة من التوافقات الطوائفية والمذهبية هي في حقيقتها تبعية وذوبان.


التحالف ما بين 7 أيار 2005 و 7 أيار 2008 صنع إرهاباً فكرياً كارثياً، وصدّر مفردات لا تزال حاضرة وفاعلة في الأدب السياسي: “الأول في طائفته”، “العهد القوي”، “الضعيف هو من يذهب الى القضاء”، وغيرها من المشتقات اللغوية التي تشير الى أن قوة التطرف هي وحدها الحاكمة. وهو من جعل التطرف نهجاً سياسياً، ولغة انتخابية من يتقنها أكثر ويمتلك ناصيتها تصبح كتلته البرلمانية أكبر. فالقوات ما تصدرت الساحة المسيحية في الانتخابات الأخيرة إلا عندما تفوقت على التيار العوني في خطابها المسيحي. ونواب التغيير الذين فازوا هم أصحاب الخطاب السياسي الأكثر تطرفاً ضد السلطة بجميع مكوناتها. حتى اختلاف أرصدتهم الانتخابية ما كان إلا تعبيراً عن الفارق في مدى تطرف الخطاب السياسي ضد المنظومة.
مع ذلك، ورغم كل شيء، لا بد أن يأتي يوم وتنضم فيه 7 أيار وخاصة 2008 الى قافلة ما سبقها من ذكريات مريرة في تاريخ مثقل بالدم والإرهاب والقوة والتسلط والجبروت، مثل يوم اجتياح المغول لمدننا، ويوم إحراق ألمعها وأشهرها على يد تيمورلنك، ويوم اجتياح الجيش الإسرائيلي مدينة بيروت، فهذا هو دأب التاريخ. يعتقد كل ديكتاتوري أنه أقوى ممن سبقوه، فيسفك بحوراً من الدماء ظناً منه أنه فوق المساءلة، ويتلاعب بالتاريخ مثلما فعل الأخ الأكبر في “جمهورية أوقيانوسيا” المتخيلة في رواية جورج أورويل “1984”. لكن محكمة التاريخ تبقى هي الخالدة، ولا بد له أن يدخلها يوماً ما مهما بلغ حجم جبروته. ليدون بإن 7 أيار هو وصمة عارٍ في تاريخ لبنان مهما كابر المكابرون.

اترك ردإلغاء الرد