بوحبيب: لإجراء مراجعة نقدية لكيفية مقاربتنا سياسة الاغتراب

ألقى وزير الخارجية والمغتربين في حكومة تصريف الأعمال عبدالله بوحبيب في الاحتفال الذي أقيم في نقابة المحامين لمناسبة اليوم العالمي للمغترب اللبناني، كلمة جاء فيها: 

“بيروت أمّ الشرائع ونقابة المحامين قلبها النابض، الساهرة على الدفاع عن المحامين لضمانة حقوق اللبنانيين. نتمنى أن يستمر هذا الصرح الوطني الجامع مرآة لضمير الأمّة المتمسّك باحترام الدستور ومبادئ الديمقراطية والحريّات العامّة. 

يشرّفني اليوم تلبية دعوتكم للاحتفال باليوم العالمي للمغترب اللبناني، ومشاركتكم ما يدور في واقعهم من تحدّيات. أخاطبكم اليوم من موقع الاعتراف والمسؤولية بأنّه واجب علينا تعزيز حقوق المغتربين وتشجيعهم على تكثيف التواصل مع الوطن الأم، وليس فقط المديح والثناء الكلامي على أهميّة المغترب ومساهمته في دعم وصمود أهله والاقتصاد في الوطن الأمّ. ولا أبالغ اليوم بالقول أنّ ما تبقّى من أعمدة هذا الوطن صامدًا يعود الفضل فيه لأولئك المغتربين الذين غادروا بلدهم على مرّ الزّمن قسرًا بسبب انعدام الأمن حينًا وفرص العمل وضيق سبل العيش فيه احيانًا، ولكنّ لبنان لم يغادرهم يومًا. فلبنان يسكن في قلوبهم وعقولهم، بالرغم ممّا تعرّضوا له من خيبات، ولعلّ آخرها حجز مدخرات بعضهم وجنى عمرهم وعصارة نجاحهم في الغربة، دون وجه حقّ، وخاصة هؤلاء الذين وثقوا بمتانة النظام المالي والمصرفي. وأنتم أهل القانون والاختصاص الأكثر قدرة على تقييم أحقّية مظلوميتهم. إن الرزقة والنعمة في الغربة وطن، والعوز والفقر في الوطن غربة”. 

أضاف: “ولحسن الحظ، فإن ظروف لبنان المعقدة لم تدفعهم إلى اليأس والنأي بالنفس عن وطنهم. لقد خطا لبنان خطوة مهمة في إطار إعطاء المغترب حق الاقتراع في الانتخابات النيابية كشريك أساسي في صناعة مستقبل الوطن وإتخاذ القرار. ومرة جديدة أعطى المغتربون نموذجًا يحتذى به بمشاركتهم الكثيفة في الانتخابات النيابية الأخيرة بما يؤشّر إلى تعلّقهم بوطنهم الأمّ ورغبتهم في المساهمة في تقرير مصيره السياسي. فلقد بلغ عدد الناخبين المسجّلين غير المقيمين أكثر من 225 ألف ناخب، موزّعين على 59 دولة، و603 أقلام اقتراع.   وفقًا للتقرير الصادر عن بعثة مراقبة الانتخابات التابعة للاتحاد الأوروبي، فقد تمّت العملية الانتخابية في الخارج “بسلاسة… دون حصول مشاكل لوجستية”، كما أعرب المراقبون الأوروبيون عن “ارتياحهم لاستجابة وزارة الخارجية” للمراجعات المتعلقة بسير العملية الانتخابية . ولقد إستوقفنا الإقبال الشديد على التسجيل لانتخابات العام 2022، حيث ازداد عدد المسجّلين حوالي 3 أضعاف عن انتخابات 2018. ولعل ذلك، خير دليل على استمرار تعلّق الجناح المغترب بوطنه الأُمّ، ومؤشر خير وعافية حول استعداد المغترب، مرّة أخرى، للمساهمة في صناعة غد مشرق لوطننا، متى توافرت الظروف والإرادات الوطنيّة”. 

وتابع: “من خلال قراءة التوزيع الجغرافي للمغتربين الناخبين، يتبيّن لنا بوضوح أنّ طبيعة الاغتراب تنقسم إلى قسمين رئيسييّن. القسم الأوّل ما يُعرف بانتشار مناطق الجوار، حيث يتوزّع حوالي مليون منتشر في كلّ من أوروبا، وأفريقيا، ودول الخليج. يعتبر ذلك الانتشار النواة الصلبة للاغتراب بسبب صعوبة الاندماج الكلّي لأسباب دينية، أو عرقية، أو قانونية، إضافة الى القرب الجغرافي الى لبنان، حيث يتواصلون باستمرار مع وطنهم الامّ، وكثيرون منهم تقيم عائلاتهم في لبنان. كما أن معظم مدخراتهم وممتلكاتهم في لبنان، وقد شكلت الأزمة الاقتصادية والمالية ضربة موجعة وكبيرة لهم. وبالرغم من ذلك، كانت واضحًة حيوية هذا الانتشار ومتابعته وانخراطه بالشأن السياسي اللبناني، حيث شكّلوا حوالي الـ75% من مجموع المقترعين في الانتخابات النيابية لعام 2022.  

أمّا القسم الثاني من الاغتراب، فيتوزع في ما يعرف بالعالم الجديد، حيث يعيش المغتربون الجدد والمتحدرون من أصول لبنانية في الاميركيتين الشمالية، والجنوبية، وأستراليا. وبالرغم من أنّ أعداد هؤلاء المغتربين كبيرة وتقدر بعدة ملايين بالأخص البرازيل حيث يزيد عدد النواب والشيوخ المتحدرين من أصول لبنانية عن ال60 عضوا”، لكنّ الأجيال المتعاقبة منهم أخذت تذوب تدريجيًا في بلاد الاغتراب، وتواصلهم مع لبنان قلَ نسبياً. مع التأكيد أن المغتربين الجدد ما زالوا على تواصل مستمر مع لبنان. أما أبناء وأحفاد المغتربين القدامى، فمنهم من يحنّ إلى وطن الأجداد، ويقدّم  أحياناً العون والمساعدة مشكوراً دون وجود مصالح مادية مباشرة في لبنان. ولكنّهم لأسباب تتعلّق بسهولة الاندماج، وبعد المسافات، وخسارة رابط اللغة من جيل إلى آخر، أصبحوا ينظرون إلى لبنان بعاطفة ورابط وطن الأجداد أكثر من تعلّقهم به كوطن يحلمون بالعودة إليه يومًا ما، إذا أتاحت لهم الأقدار ذلك.  وقد نقلوا الثقافة والعادات اللبنانية معهم بما فيها حب المطبخ اللبناني والقصص الجميلة المتوارثة عن آبائهم وأجدادهم من المهاجرين الأوائل. لهؤلاء المغتربين بصمات لافتة ونجاحات باهرة في عالم الإقتصاد والسياسة والثقافة. ومنهم من تبوأ رئاسة الجمهورية وأرفع المناصب الوزارية.  ولا ننسى أهمية الإبداع  الفكري للإغتراب وبصماته اللافتة في النهضة العربية. وبذلك، ساهم هؤلاء المغتربون في صناعة الحياة السياسية والإقتصادية والثقافية وبوصول الصورة الجميلة  لبلدنا الصغير بمساحته الجغرافية الى عقول وقلوب ملايين البشر من الأجانب في كافة أصقاع الأرض”. 

وقال بوحبيب: “إن الرابط الجامع بين الإنتشار والإغتراب هو الإبداع اللبناني وفرادته في التألق والنجاح في المجالات الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية، الدبلوماسية ،الثقافية، والفنية، متى توفرت البيئة الخصبة والحاضنة لنمو الطاقات اللبنانية. فطموح المغترب أكبر بكثير من الفرص المتاحة في وطنه الأم، وكل ما يحتاجه توافر العناصر والظروف المساعدة لإظهار ونشر عبقريته والاستفادة منها في كافة المجالات. لقد سعى لبنان الى تعزيز خارطة إنتشاره الدبلوماسي والقنصلي من خلال شبكة مكونة من 89 بعثة دبلوماسية وقنصلية موزعة على القارات الخمس لتعزيز التواصل مع المنتشرين والمغتربين. وفي كثير من الأحيان، تم إنشاء هذه البعثات بالدرجة الأولى لأهداف إغترابية ، لا سيما خدمة مصالح هؤلاء المغتربين ورعايتهم. 

في الخلاصة، يدفعنا هذا الواقع إلى التفكير بوضع سياسات تحاكي خصوصية الانتشار والاغتراب اللبناني جغرافيًا، وربّما قطاعيًا ومهنيًا ليستفاد منها لملاقاة واقع وطموحات المغتربين.  ومن على هذا المنبر، ندعو لورشة عمل بين نقابة المحامين ووزارة الخارجية والمغتربين لوضع خارطة طريق للنهوض بالإغتراب. كما ترحب الوزارة بمساهمة النقابة، بالتعاون مع مجلس النواب، في أية ورشة مستقبلية لتحديث القوانين المتعلقة بالمغتربين. إنّ مدّ جسور التواصل بين الطاقات اللبنانية خير وسيلة للنهوض والتطور. نحتاج اليوم أكثر من ايّ وقت مضى إلى إجراء مراجعة نقدية لكيفية مقاربتنا سياسة الاغتراب والإنتشار والطرق الآيلة إلى كسب ثقة أهلنا في الخارج وربطهم أكثر بوطنهم الأم. فتصحيح الواقع الاغترابي يبدأ بوضع خارطة طريق لتطويرالنهوض بالاغتراب إنطلاقا” من الواقع الإغترابي الحالي الغني بفرادته والمتجذر بإبداعه”. 

وختم: “كل الشكر لنقابة المحامين على هذه الإستضافة وإحيائها لليوم العالمي للمغترب اللبناني، وتمنياتي للنقابة  بإستمرار التوفيق برسالتها خدمة للبنان بمقيميه ومغتربيه”

المركزية

اترك ردإلغاء الرد