النقد والنقد المضاد من كتاب “قرابين مشتعلة

دراسة تحليلية في أدب جورج شامي

عندما يهمّ كاتب في نقد كاتب، تتوالى المضادات الحضارية والثقافية، ومن ثمّ تتوالد بعد أن تتلاقح خشيّة أن تحين نهاية العالم فجأة، ويبدأ معها زوال المعنى، فلا زوال آخر سوى زوال الكلمة، بعد أن يكون كل شيء قد تكوَّنَ في رقعة البدايات؛ نصوصاً أصليّة وأخرى متحولة، لا تعدو كونها أُخذت عن أصلٍ من دون فصل، فيعبق النصّ بتبذير الكلام ويبقى المعنى الحقيقي أضغاث أحلام…

في سنة 1997 وفي عدد «نداء الوطن» الصادر يوم الخميس في 28 آب من ذاك العام قال أحمد بزّون:

«هنالك مقالات تتعامل بجديّة مع مادّة النقد وأخرى تتعامل بخفّة وثالثة تكون غايتها المديح المجّاني…»

وفي هذه المناسبة نستذكر من كَتَبَ في مواضيع شتّى؛ ومن حاول أن يكون ناقداً فسقط في مستنقع واسع من شرّ وإحباط وأغرق معه المعنى والمبنى؛ وفي هذه المناسبة أيضاً نستذكر ما قاله إبراهيم الكوني في بيت شعري يقيم للمعنى صرحاً فيقول:

«شَقيٌّ من لا يحسن الكلام والأشقى منه من لا يحسن السكوت»

ويا ليت الذي تكلّم سكت أم اتّعظ إلى الأبد، فلا يترك الميدان للملامة أو لغراب البين…

ويا ليت الذي فاه بكلامٍ ناقدٍ أسقط عن عمد القناع وأتانا بكلام حاسد، فالحسد في مثل هذه المجالس فضيلة، أجل ففي بعض المناسبات الصمت أصلح من الرذيلة وفي بعض الأزمنة، خيرُ أن تكون خارجاً على القانون من أن تكون ناقداً منتقداً منقاداً إلى دوّامة الكلام وعجقة الأوهام، ممّا يدعو إلى الإستهجان ويفضي إلى القباحة والسُقام، فكثرة التحليل وإدخال الأصيل على الدخيل، يجعل صروح النقد تعادل في انهمارها حجارةً من سجّيل..

كم من دعيّ أراد أن يساجلَ وينازل فصار كلامه يعادل الصراخ والعويل، وهو يظنّ أن ما تخطّه يراعته يضاهي نصوص التوراة والقرآن وكلامه تنزيل أقدس من كلام الإنجيل.

وكم من «كاتب» ظنّ في غفلة من الزمن أنّه قادرٌ على خداع أهل الدنيا فكانت صفات الإبهام سبيله، وكلامه أعجز من أن يدركه العوام، وما يكتبه ليس بأدبٍ بل شرٍّ وبيل…

وإذا اختلطت المعارف على مدّعيها، فهل من قائل … وليت ساعة مندم، أم يتعظ ويقول ربّاه أهدني سواء السبيل!!…

أمّا في هذا المقام،….. ما قيل في أدب جورج شامي من كواكب تدور في أفلاك شاسعة من مبناه ومعناه، ماذا عسانا نقول بعد، ماذا نقول عن رجل تسعيني يكتب حين نعلم أن الدكتور «يحيى حقّي» صرّح وهو في السبعين؛ أنه توقف عن الكتابة، توقفاً تاماً فلم يعد يكتب حرفاً واحداً، معتبراً أنّه قال كلّ ما عنده ولن يزيد على ما كتبه حرفاً واحداً.

إن جورج شامي في رحلته الأدبيّة لم ولن يتوقف عن الكتابة، كما لو أنّه يردد مع «غوته» هذه الجملة السحريّة: «إن الكون ثوب الله» وبفارق بسيط إنّ الكون هو الأدب لدى الأديب، والثوب هو الكتاب، الذي بنورهِ المشعّ كانت الكلمة وفي البدء كانت الكلمة…

أمّا في ما تناوله جورج شامي من مواضيع نقديّة، فإننا نعثر عليها في كلّ كتاباته التي شملت القصة القصيرة والرواية والمقامات الصحفية بألوانها المختلفة؛ ملمٌ هو بأحوال الثقافة والأدب والسياسة في مدّة خمسين سنة، شهدت فيها الصحافة عصرها الذهبي، كما ذهبت نحو الأفول والذبول، بعد أن ظهرت وسائل التواصل الاجتماعي واحتمالات جديدة للتواصل السريع الخاطف، فاندحرت الصحافة التحليلية الرصينة أمام اجتياح جحافل العولمة حتى صحّ قول أبي العلاء:

«أمّا اليقين فلا يقين وإنّما أقصى اجتهادي أن أظنَّ وأحدسا»

وأمام هجمة وسائل التواصل، هل سيبقى ظلٌّ لشجرة الأدب حتى نستدعي ما بقي لنا من أملٍ في هذه البشريّة، ها هو عالم ومنظّر اليوغا «فالميكي» يقول: «العالم أشبه بالإنطباع الذي يتركه سردُ قصّة».

هذا السرد الذي عاش عليه جورج شامي في كلّ تضاعيف حياته الفكرية؛ والأدبية؛ والصحفية؛ والروائية؛ والقصصيّة، وهو من قال ذات يوم في «ذكريات عارية»[1] رداً على سؤال: «كيف يكون الله خير الماكرين»، وعن رأيه بالإنجيل على شكل حوار مع سيّدة:

« – ما هو رأيك بالإنجيل المقدس؟

فأجاب بوضوح واطمئنان:

كتاب لعالم من غير هذا العالم.

فأبدت استغرابها وسألت:

كيف يكون ذلك؟

فبددّ استغرابها:

المسيح قال لتلامذته وأتباعه: « مملكتي ليست من هذا العالم». ومن كانت مملكته من غير هذا العالم فأعماله تثبت أقواله»…

هل قرأت القرآن؟

فأجابها:

قرأته مرات ومرّات، وأنا أحفظ الكثير الكثير من الآيات وأسبح في صفاء الإيمان كلما استمعت إلى تراتيل الآيات، وقبل أن تسأليني… أخبرك أنني قرأت «نهج البلاغة» مراراً وأنا شديد الإعجاب بجوهره ومضمونه ولغته، كما قرأت «التلمود» والعهد القديم المعروف بإسم «التوراة»؛

إن جورج شامي بدأ حياته الأدبية بالنقد الذاتي من خلال قراءة النصوص المقدّسة، كما فعل «بول ريكور» الذي درس النصوص الدينية الأصليّة من خلال التحليل النفسي الفرويدي، وكأن في ذلك رحلة سرّية وفائقة؛ رحلة لمن ينشد البحث عن الذات في متاهات الوجود، والبحث عن علائق متينة من التي تكوّن العهد بين الله والإنسان، الوجود والإنسان العاقل والخلق الأسمى للعقل والتأثير على فكر الإنسان وسلوكه!.

قد يقول قائلٌ أن الإنسان من خلال الأدب يبحث عن الله، يواصل حثيثاً، حتى يعثر على وجهه وسط عجالة كل هذا الوجود المشوب بالإبهام.

ولكن في حرفة الأدب يسعى الأديب إلى البحث في الإلهيات علّه يجد عكس ذلك؛ أي أنّه يبحث عما إذا كان الله الباري، هو من يخط مسار البحث عن الإنسان الضالّ، الذي عن قصدٍ أو عن غير قصد ترك ذاته تتخبّط في حمأة الخطايا، وذلك من خلال سفور المعنى وانسداد الآفاق، ها هو جورج شامي في «صلاة ومزامير في هيكلٍ متداعٍ»[2] يقول في الصفحة 40 ما يلي:

«وركعت الصبيّة وصلّت:

«يا إله السماوات والأرض،

« يا من حوّلت الرحيق عسلاً في أحشاء النحل،

« يا من فجرّت الينابيع ماءً زلالاً في الصخر،

« يا من أنبتَّ العشب أخضرَ ندياً في القفر،

« يا من كوّنت الإنسان في ظلمة الرحم،

« يا من علقت الأرض بالبحر،

« يا من ضربت الحديد بالصدأ، والخشب بالسوس والحجر بالاهتراء،

« يا من ساويت الذهب والألماس وأثمن المعادن بالفحم والصلصال،

« يا من نفخت روحك في الطين فصار بشراً سويّاً..

« يا من ضربت الإنسان بالموت فصار نسياً منسيّا…

إن كلّ هذه الصور والأنساب الإلهيّة تحمل تحليلاً انتروبولوجياً، فظلمة الرحم هي العدم، الذي منه أتينا وقد نعود إليه، ونجهد حتى لا تكون حياتنا هباءً واسعاً لا طائل لنا حتى نفهمه، ولو وضعنا «أنوثتنا» خلف قناعٍ من المباهج والمسرّات. ونحن في دواخل نفوسنا، نعيش الحزن والقهر من هذه القوّة التي لا نعرفها ولا نفقه لها معنىً..

جورج شامي في كتابته نقد للنقد الجمعي الذي عليه تتوالى عمليات التفسير لظواهر مبهمة لا تلبث وأن تفقد معناها شيئاً فشيئاً مع تهافت الفلاسفة والبحّاثة في استحضار خوارق ومزايا لم تكن في الأصل من صلب العقل ومفاهيمه وحدود إدراكه الواعي؛ وكأن جورج شامي يقول مع أبي العلاء المعرّي:

عرفتُ سجايا الدّهر، أما شروره فنقدٌ، وأمّا خيره فوعود…

لقد نظر الأدباء إلى النقد كإبهام واعتبروه تلفيقاً، ولكن ليس كل ما يقال له معنى ففي بعض الأعمال الأدبيّة، أمور يعصى علينا فهمها؛ ألم يقل جبران خليل جبران:

«ليست حقيقة الإنسان بما يظهره لك، بل بما لا يستطيع أن يظهره. لذلك إذا أردت أن تعرفه، فلا تصغِ إلى ما يقوله بل إلى ما لا يقوله».

لقد أثبت جورج شامي أنّه حين يقرأ أو يكتب، لا يسترعي انتباهه غواية أو ضلال ولا حتى صناعة عبارة أو تعمّد اختيار ألفاظ، بل أراد أن لا تنفصل الفكرة عن الشخص الذي يتناوله، كتابةً وتعليقاً، يريد له أن يكون هو نفسه من دون إنفصام أو تورية تأخذ القارىء إلى مدارات ولو كانت عذبة ومسليّة بيد أنها تُضلّل وتجعل من المتلقي موغلاً في الضياع، ها هو في «زمن الحداثة»[3] يقول عن خليل رامز سركيس في الصفحة 105 ما يلي:

« هذا هو الإنسان الذي كّشَفَ كنوزه الفكريّة والإيمانيّة وأبعاد تصوّراته المستقبليّة الراسخة في جذور، بعضها نخرها السوس بفعل القدم وبعضها الآخر يتجدد مع تجدد الأيام بفعل الفاعل القائم على الديمومة والاستمرار الناتجة عن خلاصة: لا حياة إلاّ بالموت، أثبت أنّه إنسان مشغول باستجلاء مصيره وبتجديد علاقة عقله بنظام الطبيعة والكون».

وهو ينطلق بنا من الأمور البسيطة العاديّة التافهة، بعيداً في النظر إلى واقع الكائن البشري في قلقهِ واضطرابه، وفي نشوته وانخطافه، فتشاهد «أعجوبة بسيطة مركّبة على صورة الله من عنصريّ الإيمان والمعرفة». وعليه يشعر وللوهلة الأولى، من يقرأ هكذا نوع من النقد، أن خليل رامز سركيس، في فكره الحاوي كل الأبعاد الروحيّة، لا ينفكّ يقرّب بين الأرض والسماء، واستطاع جورج شامي الناقد أن يستحضر مرحلة من مراحل الوعي، هذا الوعي عينه الذي يشكّل خارطة طريق وإطاراً من خلاله نحتسب أبعاد الكلمات، لكي تتمكن المقدّرات العقلية، أن تعطينا وصفاً دقيقاً لمفكّر، وحتى نستطيع من خلال كلمات الناقد أن نفيه حقّه وننقل أفكاره إلى أناسٍ قد تكون معرفتهم سطحية بالأديب صاحب الأعمال التي يتناولها الناقد.

لم يكن جورج شامي سوى شاهد حق، وليس شاهد زور على خليل رامز سركيس صاحب كتب مثل «أيام السماء» و«أرضنا الجديدة» كتب روحية فلسفيّة ارتقت بالكاتب وجعلته محطّ الأنظار، وجعلت جورج شامي يقول فيه ذلك الكلام البالغ في رقيّه وعذوبته، وخليل رامز سركيس إبن كلمة صريحة وفلسفة صلبة متعمّقة في أسس الإيمان كما في أهميّة الإنسان ودوره وقدراته ومراميه. يقول خليل رامز سركيس في «أيام السماء»[4] في الصفحة 45:

«الحياة الصميم هي الجواب عن قلق الوجود.

طريقنا الحق في مصيرنا الصميم. عظمة الإنسان – أولاً – في داخله. لا مصير في خارج الإنسان، وعندئذٍ فأنّى للمصير أن يتحكّم؟ إن ما يسمّى «تحكم المصير» ليس، في الأرجح، إلاّ عذر «الواني»[5] الجبان ليسوّغ تقصيره عن أن يظلّ من الداخل – داخله – على عمق حياته».

لا شكّ في أن هكذا تفكير عميق استثار جورج شامي حتى يكتب عنه، يكتب عن خليل رامز سركيس، الغارق في إيمان أرسطي عقلاني عميق ومتجلّد؛ إيمان مسيحاني على خطى مار توما الأكويني في صفائه وقدرة نفاذه، وانتقاء العبارات في قالبٍ أخّاذ، بعيد عن كل تسويف فارغ وإرهاصات تأخذ بالكاتب والقارىء، إلى حدود منطقة تائهة بين الواقع والخبل وقلّة الفهم والإدراك.

أجل لقد توصّل جورج شامي في تحليله إلى نقل عقلية خليل رامز سركيس، بيد أنّه في محل آخر وفي تناوله نتاج فؤاد كنعان مثلاً، انتفض أمام تكرار كنعان وأسلوبه وتناوله المواضيع ذاتها من زاوية واحدة، ومعنى وأسلوب وطريقة كتاباته؛ التي أصبحت نسخة مكررة عن إطار واحد، فمن «قرف»، إلى «على أنهار بابل» وصولاً إلى «مديريّة كان وأخواتها»، لم يبدّل فؤاد كنعان حرفاً وحداً من أسلوبه، الذي على جمال صياغته وبلاغته وقوّة سبكه وتفوّقه في ما يشبهه من أنماط كتابية، بات أسلوباً نمطياً، مكرراً يرسف في أغلال عبودية الكلمة الآحاديّة الجامدة غير القابلة للتغيير والتطوّر. ها هو جورج شامي يقول عنه في الصفحة 125[6]:

«ولكن، هل من حق فؤاد كنعان أن يغرق في ما يشبه التكرار وأن يبقى دائماً مقيماً في «مديريّة كان وأخواتها» دون ما حراك أو تجاوز، وهل بات من الصعب عليه، كي لا يقال من المستحيل أن يخرج من فعل هذا «الماضي الناقص» الذي حصد من عمره الأدبيّ والإنسانيّ غلّة من أروع الغلال في نسيج القصّ المحبوك بخيوط دقيقة الغزل، بديعة التصميم، ملزوزة العقد، وإن كان غناها بالألوان عرف أصنافاً محدّدة يتميّز بها صنيعه…

إلاّ أن أنماطه ليست على تعدديّتها قادرة على أن تُخرج أحاسيس ومشاعر وتململات وأفكاراً تعبّر عن ثورة تتفاعل من بذرة تحمل في جيناتها نقمة على طفولة وفتوّة، رافقتها نكسات بفعل فعلٍ داخلي حيناً أو بفعل فعلٍ خارجيّ حيناً آخر، صدمتها في خروجها إلى الحياة التي واجهت ضياعاً بين «المألوف الظاهر والخفي المبطن» بوشاح من شفافيّة روحانيّة، ما كانت المسوح ولا التقاليد، ولا الصلوات لتخرج بها من عالم النقض إلى سموّ التكامل، خصوصاً وإن التعايش معها، والتعبير عنها، واستلهامها سلباً أو إيجاباً ترك أثره في العمق، وتحوّل في خضّم التحولات، موقفاً لازماً لارتباط معيّن، أو إلتزام بمفهوم رفضي أو علماني أو إلحادي، فإذا أناقة الشخص تنعكس على أناقة الشخوص، وإذا أناقة التعبير تنعكس على أناقة التصرّف… وإذا التمرّد هو فعل متهكّم لا فعل ثورة لهدم أو بناء!»

يعكس هنا جورج شامي في نقده جملة حقائق، مأخوذة من معين الأدب الحقيقي، وهو بذلك يحدد بطريقة أنيقة وتحليل غير مسبوق، نقاط الضعف ونقاط القوة على حدٍّ سواء، في كتابات فؤاد كنعان، ويغمز إلى أن الأديب، هو في تكوينه حامل شعلة تغيير؛ عليه أن يتطوّر ويطوّر معه الناس والمجتمع، فإذا لم يأخذ ويعطي من فكره السيّال والقويم، ويمنح هذا الوجود من نور عقله المُحتَسب والناضج، يبقى كلامه رنّاناً فارغاً، ينتهي مع انتهاء الإحتفال وتسدل عليه الستارة، كما حين تنتهي المسرحيّة ويفرغ الممثلون من أدوارهم أكانت رئيسيّة أم ثانوية، فللنهايات وقعها الختامي، سيّان أكان الفرد بطلاً أو كومبارس، إن الإضاءّة هي الأساس وانعدامها هو المنتهى وبداية الضلال…

أمّا في مقالة هي في الواقع دراسة طويلة تحت عنوان: ماذا فعل «الشعراء الأحرار» بالورد والياسمين؟

ولماذا يقتتلون على رسم الحدود؟

من أجل أية قصيدة؟[7]

يتحدث جورج شامي عن الشعر الحديث ناقداً، من دون محسّنات بديعيّة، ولا أي تنميق يخدش حياء السّماع أو مفاهيم الشعر قديماً وحديثاً، فمن «راينر ماريا ريلكه» إلى جبران خليل جبران وسعيد عقل وصولاً إلى أدونيس وحداثيته المميزة والبياتي وأمل دنقل وعبد الصبور إلى خليل حاوي، نقداً يحاكي كل الميول المتناقضة، كل ما هو عابق بالماضي والحاضر تحت سقفٍ واحدٍ، مع بزوغ عصر «الكومبيوتر» و«الإستنساخ» و«الإنترنت» و«الواتس أب» إلى غير ما هنالك من تشويه وتنكيل في الأصيل وفي ما يجعل الإنسان يتبدل، يتغيّر ويتحوّل…

لقد قال «ميشال فوكو» الفيلسوف الفرنسي المعاصر، أن إنسان اليوم؛ أو الإنسان الجديد هو حتماً إنسان غير الذي عرفناه حتى الآن وعلى الأقل منذ العصور الكلاسيكيّة وصولاً إلى عصور الحداثة… بيد أن إشكالية الأدب والفن والشعر والفكر والثقافة، تشهد هي الأخرى تحوّلات، وتشهد بالإضافة إلى التحوّلات، تشوّهاتجذرية، تجعل من الوجود وجوداً باهتاً، وتعيد استنساخ تفاهات أدبيّة تذكرنا بعصر الإنحطاط، حين صار الأدب صناعة تشبه عملية بيع حفنات من «الترمس والقضامة» في أسواق المدينة، أي مدينة أقفلت مكتباتها واستبدلتها بمشارب توزّع الخمور الفاسدة والحشيش والممنوعات والمأكولات المضرّة؛ ولا خوف من الطاعون الفتّاك، لأن أجيال العالم الجديد تولد مسوّسَة من الأرحام وهي لا تحتاج أصلاً لما يفسدها!…

يقول جورج شامي في هذه المقالة:

في زمن التداعيات والإنهيارات، أيّة قيمة للشعر وأيّ دور للشعراء؟ لا شكّ في أنّ الشعر يفقد أكثر فأكثر قيمته وفاعليته وتأثيره في الناس والمتلقّين، الشاعر لم يعد صدى عصره وصدى قومه وصدى أمته. صار صدى ذاته، صدى «الأنا»، فكيف نطلب منه أو نريد له أن يكتشف الآخرين ويتعرّف إلى «أنا» غير «أناه»؟

ويتابع شامي قائلاً:

«في زمن «الكومبيوتر» و«الإنترنت» و«الإستنساخ» هل من لحظة بعد للحقيقة؟ وهل يعني هذا أن الإنسان المعاصر اغتال القصيدة وارتاح مضحياً بالدفء والحنان وكل المشاعر الحميميّة؟

«على الشعراء أن يقاوموا هذا التحدّي بدل التلهي بشرح قصائدهم للناس وفلسفة تجاربهم وتبرير إفلاسهم، وقد بات دفاعهم عن شعرهم أجمل من هذا الشعر.

في هذا المعنى قال «الجواهري» الذي نعت بمتنبي العصر واصفاً خطأ الفيلسوف (الشاعر) :

«تجري على رسلها الدنيا ويتبعُها رأيٌ بتعليلِ مجراها ومعتقدُ

أعيا الفلاسفة الأحرار جهلهم ماذا يخبّيء لهم في دفتيهِ غَدُ…»

ففي حين يغمز جورج شامي من قناة «الأنا» وإدراك «الأنا» مع «أنا» الآخر، نرى إلى ذلك تحليلاً نفسياً يشبه في أبعاده الصغرى، تحليل «جاك لاكان» الذي أراد إدراك اللاوعي في «أنا» الآخر تمهيداً لفهم عناصر الأدب ودوافعه، فكان الجواب لدى الجواهري، ولدى جورج شامي في ما هو اغتيال للقصيدة ومعها عملية انتاج الفكر وتحوّلاته في هذا الزمن، الذي اغتيل فيه الأدب والفكر والصحافة والمنطق وكل ما هو انتاج للعقل والمعرفة.

ونستعرض من وجهة نظر أخرى ما يقوله «رولان بارت» في الشعر حين يشدد[8] على أن: «معجم الشعر بحدّ ذاته، هو معجم قابل للإستعمال وليس للإختراع». كأنّ كل شيء موجود ولذلك، يتابع جورج شامي قائلاً في «المقالة – الدراسة»:

«إن تسعين بالمائة ممّا ينشر على أنه شعر ليس شعراً، وليس له قرّاء، ذلك لأن القصيدة الحقيقية تشبه المرأة الحسناء التي لا تحتاج إلى من يقول إنها جميلة بل إنّ جمالها يدرك، القصيدة لا تحتاج إلى منجّم أو ناقد أو ساحر كي يكشف جمالها. والفن لا ينتمي إلى السنوات والمراحل لأن طبيعة الإبداع كونيّة، ولأن الإبداع يربط ما بين ما هو زمني وأبدي، ومن ثمّ فإن القصيدة الجيّدة تنسلخ عن زمن كتابتها وتدور في فلك هذا الكون إلى جانب أخواتها من القصائد الجيدة التي كتبها الغابرون وسيكتبها المقبلون».

في هذا النقد، نظرة كونيّة شاملة تنظر إلى الماضي والحاضر وتستشفّ المستقبل، في محاولة نافذة للإحاطة بمفاهيم الفن والأدب والشعر، واستعارة الزمن من اجل استحداث حركة تشبه حركة الكواكب غير تلك التي تبشّر بالهمود والكمون، فهل سنصل إلى يوم تقف فيه الشمس والكواكب في مكانها وتتحول الدقائق إلى أحجار وجلاميد صلدة وصلبة تقف خرساء أبد الدهر؟!!..

يقول رولان بارت (المصدر نفسه صفحة 24): «اللغة والأسلوب ليسا سوى قوى ضريرة (عمياء): أمّا الكتابة فهي عمل تضامني تاريخي. اللغة والأسلوب هما أشياء، والكتابة هي وظيفة: إنها صلة الوصل بين عملية الخلق والمجتمع…»

وعليه قام جورج شامي بتأكيد علاقة الخلق والإبداع، وذلك في مناسبات وكتابات ووقفات لا تعدّ ولا تحصى، إيماناً بحتمية، وأحلام كبرى، وصولاً إلى انجازات في أساسها الإيمان والمعرفة والواجب؛ ها هو يقول في تمهيد كتاب يجمع هو الآخر مقالات نقديّة؛ هو كتاب؛ «الحلم والحنين في الذاكرة الحدباء»[9]؛ صفحة 16:

«نتيجة وعيي لهذا الواقع وما يُقدّمه من نداء في كلّ ما كتبت عن الحرب وما استلهمته منذ عام 1975 حتى اليوم، تكوّنت لديّ في خطٍ صاعدٍ ومستمرّ من «أبعاد بلا وطن» إلى «فداء بلا قضيّة» إلى « وطن بلا جاذبية» إلى «إيمان بلا شفاعة» إلى «عبث» إلى «ليلة في برج القوس» إلى «لماذا يا أخي» إلى «ذكريات عارية» وغيرها، روح واحدة لنمطٍ واحدٍ وهي رفض للحرب بكلّ أبعادها ومراميها وأحلامها ووقائعها وغيبيّاتها“.

هكذا يكون جورج شامي قد مارس النقد الذاتي؛ بدايةً على نتاجه وأدبه وقصصه، قبل الشروع في رحلة النقد ومعاينة ما ينتجه أدباء ومفكرون آخرون.

في كتاب «الحلم والحنين في الذاكرة الحدباء» يتحوّل النقد لدى جورج شامي إلى مشروع تعليمي ذكائي متكامل؛ يصل إلى ذروته القصوى حين يتكلّم على أعمال الدكتور جوزف أبوجودة تحديداً في كتاب «آفاق الفكر السياسي في لبنان». وفي هذا الكلام نورد ما قاله جورج شامي في الصفحة 62 [10]:

«كلّ هذا يثبت أن لبنان ينحرف شيئاً فشيئاً نحو هذه الفدرالية الطوائفيّة وإن كانت غير معلنة تحت ستار حكم «الترويكا» و«الديموقراطية التوافقية» و«الشراكة» و«لا أحد يستطيع أن يلغي الآخر» في حين أن الأقليّة ألغت الأكثريّة وحوّلتها إلى هيئة كسيحة وعرجاء!»

هكذا يدخل جورج شامي إلى صلب الموضوع مسقطاً كل الحجج والتفسيرات والتدويرات المضلّلة الواهية السقيمة حول الصيغة اللبنانية مضيفاً:

«طالما أن لبنان كان حقل تجارب منذ الإستقلال حتى اليوم، والولاء له مازال قيد الدرس لدى فئة من أبنائه الذين لم يتجردوا من قناعاتهم الخائبة، من أيام فخر الدين مروراً بحكم القائمقاميتين والمتصرّفيّة، وطالما أننا نفاخر بأننا نموذج الدولة الفريدة في العالم: فلنعتمد إذن فدرالية الطوائف هذه إذا كانت تريح الوطن وهي الحلّ المرتجى ولنخرج من شرنقة النفاق ونتخلّص بذلك من هذا التردد المعطل للحياة السياسية الصحيحة في لبنان، ونخلّص لبنان من علله ومنها اعتماد الديموقراطيّة المشوّهة في التمثيل الشعبي او الرجوع إلى الطائفية والمذهبيّة لكونها معدناً ملتوتاً بذهب الدّين الذي لا يلبث ويا للأسف أن يمصل ويبهت مع الأيام وينكشف سرّه».

أجل هذا هو النوع من النقد السياسي، المطلوب في وطن مثل لبنان يفتح للفتنة مصاريع أبوابه، وطن يمتلك أعلى نسبة من المفكرين والأدباء والعلماء، بيد أنّه يسلّم قياده إلى المنافقين والخونة، وأتباع الأنظمة الخارجية وعبيدها، الذين يدمّرون الوطن لمصلحتهم وتنفيذاً لأجنداتهم ومشاريعهم!

ويضيف جورج شامي في الصفحة 63 ما يلي:

«ما دخلت السياسة شيئاً إلّا وأفسدته»

ولكنني لم أجزم هنا وبدون تردد «أن الطائفية ما دخلت شيئاً إلّا وأفسدته».

انطلاقاً من قناعته ومن هذه المعادلة يختصر شامي سبب علّة الوطن: «السياسة والقداسة»، «السياسة والدين»، وهما عنصران مركّبان، لا يجب أن يتداخلا أو يتمازجا، وفي حال حصل ذلك ستكون النتيجة الإنفجار النووي الكبير الذي لا يبقي ولا يذر.

أمّا بعد، فنتابع طرح السؤال ماذا قيل في جورج شامي نقداً وماذا سيقال، فذلك من وحي؛ ومن وجهة ما فكّر به ذلك الرجل وهو يكتب بالشكل الصريح؛ قديماً قال المتنبي وهو يندب شيبه في صباه:

“شيب رأسي وذلّتي ونحولي   ودموعي على هواك شهودي”

والمتنبي سيّد الكذابين، لأنه لم يشب في سنّ العشرين وكان في الأرض من المتكبرين (وهذا الكلام لأمين الريحاني في كتاب أيّها الشعراء). فهل علمتم الآن لماذا الله خير الماكرين!!

هناك من كتبوا، وهناك من استثاروا الكتابة وهنالك من آثروا الصمت إلى درجة ضمور الذات وانعكاس الذات الوهمية إلى داخل المرايا المقعرّة والتي استحالت إلى مرايا من دون قعر او قرار، قاله جورج شامي ذات يوم في استفتاء نشر في جريدة «النهار» في أيار من سنة 1972 يفصح عن ذهنيّته إذ يقول حول علاقته بالقارىء، ما يلي:

«أنا لست غانية تتبرّج لترضي وتغوي.

ولست ……. في سيرك يستثير التصفيق، أنا لا أمدّ يدي بقفازات إلى قارئي، ولا أطرح مواضيعي مطلية بالمساحيق. في صدقٍ وترفّع اطرحها وبشيء من الغرابة».

وهذه الغرابة رافقت جورج شامي على مدى سنوات، رافقته في دراسات بنيوية عن الإنسان وأحواله، عن الوجود والدين، عن المجتمع والسياسة، عن الحب والشجن، والعلاقات بين الذكور والإناث، قصصَ حبّ عاشها أو شاهدها أو سمع عنها، فصول من مسرحيات عبثيّة كان فيها الشاهد الملك؛ كما في «عصير الزنزلخت»، حين يشاهد جورج شامي لهو وعبث الأستاذ، في أحضان الحب الممنوع، ويدخلنا معه إلى أعتى التابوهات التي نجدها في المجتمع ولا يجسر أحدٌ على الكلام عليها، نعم فائض الحرف، كما فائض النِعَم، وحدة الوجود مع احتمالات كبرى للهزائم والأفراح والرذائل، كما الفضيلة والانتصارات والمعالم الكبرى الناجية من عصور الإفلاس؛ نعم هذا هو أدب جورج شامي، في محاولات حثيثة لفهم الذات، وفهم اللغة في ما تحويه من تأويلات وسؤال مستمرّ من أنا وماذا أفعل؟

قد يكون الردّ على لسان المفكّر والفيلسوف بول فاليري:

«أخيراً أن ترفع صفحة (نكتب صفحة)

تكون بقوّة السماء المرصّعة أنجما».

/THAQAFIAT/

اترك ردإلغاء الرد