ترند منى برنس… الأكاديمية المُعاقَبة بتهمة “الرقص الشرقي”

حرية الاعتقاد مكفولة طالما ظلت حبيسة في النفس من دون الجهر بما يخالف الأديان السماوية”، كانت تلك الجملة المثيرة للجدل والسخرية، على مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام الماضية، هي إحدى حيثيات الحكم الصادر ضد الأستاذة الجامعية منى برنس، إذ قضت المحكمة الإدارية العليا في مصر، برفض الطعن الذي تقدمت أستاذة الأدب الإنكليزي في كلية التربية- جامعة قناة السويس، طعناً على الحكم الصادر من مجلس تأديب جامعة السويس بعزلها نهائياً من وظيفتها، وأكد حكم المحكمة عزلها عن العمل في كل الجامعات المصرية.
تعود الواقعة إلى سنوات عدة، حين نشرت برنس على صفحتها الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي “فايسبوك” مقطع فيديو وهي ترقص على سطح منزلها، على أنغام إحدى الأغنيات، وهو المقطع الذي انتشر بكثافة، وأثار ضجة بالغة وفتح عليها أبواب الانتقاد والملاحقة القضائية.
الرقص الشرقي جزء من الثقافة المصرية
ويرى الحكم القضائي أن نشر تلك الفيديوات يحطّ من هيبة أستاذ الجامعة، وأن الحرية الشخصية لا تعني الإباحية بالمخالفة لقيم المجتمع وتقاليده، لكن اللافت أن فيديو الرقص جاء بجلباب فلكلوري مغربي محتشم، لم يظهر من جسدها أي جزء، ولم يكن رقصها مثيراً للغرائز كما يحلو للبعض الترويج والإيحاء.
وعلى رغم أنّ الرقص الشرقي هو أحد الفنون المنتشرة في كل ربوع مصر، ولكن الجديد في هذا الحكم القضائي جعل منه تهمة تمس القيم والثوابت المجتمعية. فالرقص الشرقي جزء من الثقافة المصرية، يمارسه المصريون في غالبية المناسبات وحفلات الزفاف، وتم استغلاله سياسياً، حيث رقصت سيدات وأطفال وشباب خلال استحقاقات انتخابية أمام اللجان من دون أن يتعرض لهم أحد.
كما أنّ الرقص الشرقي غير مجرّم ولا يعاقب عليه القانون في مصر، لكنّ المحكمة اعتبرت أن رقص برنس خدش حياء المجتمع، واستنكر البعض ذلك على اعتبار أن المجتمع نفسه هو الذي آزر ودعم معيد بكلية الطب في جامعة الزقازيق بعد ثبوت تحرشه بإحدى الفتيات، وخدش حيائها في أحد وسائل النقل الجماعي، ولم تقم الجامعة بتجريم فعله أو عزله بعد هذه الواقعة المشينة.
وخلال التحقيقات أقرت منى برنس بنشر فيديوات لها، وهي ترقص عبر صفحتها على فايسبوك، وعلّلت ذلك أن القانون لا يمنع رقص أستاذة الجامعة، وأن نشر الرقص على الملأ على صفحات التواصل الاجتماعى لا يتعارض مع صورة أستاذ الجامعة.
منى برنس… تقاطع وسائل الإعلام
“النهار العربي” تواصل مع منى برنس، لكنها تحفظت على الإدلاء بأي تصريحات، إذ يبدو أنها قررت مقاطعة كل وسائل الإعلام، لكنها أقترحت أن أحصل على ما يروق لي من منشوراتها على فايسبوك. وكانت علقت برنس على الحكم عبر صفحتها على فايسبوك بقولها: “شكراً للقضاء المصري… ولمحكمة مجلس الدولة في انتظار العدل من الله”، ربما جاء هذا التعليق المقتضب، خشية أن تطلق أي حديث فيتم اتهامها بإهانة القضاء.
وقالت برنس: “عندما قرأت حيثيات الحكم بعزلي النهائي، لم أكن مصدقة، لا أعلم هل أضحك أم أبكي، لا أشفق على نفسي، فأنا أعيش حياتي مثلما أريد، وليست هذه الجامعة التي أندم على عدم رجوعي إليها، لكن أشفق على مصر، فليست هذه مصر التي ولدت فيها وكبرت فيها وتربيت فيها على الموسيقى والرقص والأغاني والسينما والأدب والمسرح وكل أشكال الفنون”.
وأضافت: “حزينة على مصر، حزينة على تاريخنا وحضارتنا وثقافتنا التي أهانتها حيثيات الحكم، ولا اعتبرها إهانة شخصية لي. فمصر الدولة، الكبيرة بتاريخها الممتد، لأن الشعب الذين يحاولون لصق موضوع القيم والأخلاق به، هو أكتر شعب يحب الفرح والانبساط”.
الحرية الشخصية ومقصلة القيم المجتمعية
يطرح الحكم التساؤل حول مدى فصل الحياة الشخصية للإنسان عن حياته العملية، ومدى سلطة المجتمع في فرض القيود على أفراده، وعلى حياتهم الشخصية، كما أثار الحكم حفيظة الكثير من المهتمين بالحريات، وانطلقت حملة واسعة من التضامن والتعاطف مع برنس، معتبرين أن الحكم يُعدّ تدخلاً سافراً في الحياة الشخصية، ومساساً بالحريات العامة والفردية في مصر.
يؤجج الحكم القلق في شأن الحريات الأكاديمية، واستقلال الجامعات المصرية، لأنه جاء كعقاب عما قامت به أستاذة جامعية خارج الأروقة الأكاديمية وقاعات الجامعة، عبر منصتها الشخصية، بتهمة نشر أفكار هدامة تخالف العقائد السماوية والنظام العام، وهي اتهامات فضفاضة، يسهل استخدامها للتنكيل بمن يقع تحت مقصلة القيم الأخلاقية أو يخالف الأعراف المجتمعية. وهو ما بررته المحكمة في حيثيات حكمها بالقول إن الحياة الخاصة للمواطنين محمية بالدستور “طالما فى إطار السرية والشخصية”.
كما أن الحكم يرسخ لسلطوية المؤسسات، خصوصاً الأكاديمية منها، واستخدامها القانون للتحكم في الحريات الخاصة، تحت دعوى حماية النظام العام والمجتمع والقيم والمبادئ الأخلاقية”.
هيبة الأستاذ الجامعي
ترى حيثيات الحكم أن فيديو الرقص يحط من هيبة الأستاذ الجامعي، لكنّ الواقع أن ما يحط من هيبة الأستاذ الجامعي ليس التصرفات الشخصية أو فيديو رقص عابر على مواقع التواصل الاجتماعي، بل سوء السلوك أو التربح وإدعاء الفضيلة.
وفي هذا الصدد، استنكرت منى برنس، ذلك بقولها على صفحتها على فايسبوك: “رقصي في بيتي ونشر الفيديو يجرح شعور الطالبات وكبرياء الزميلات، إنما تحرش الأساتذة بالطالبات، والزميلات من شأنه الارتقاء بالقيم والأخلاق، والكلام حول أن حضارة مصر القديمة حضارة عفنة وآثمة في المحاضرات لا يعتبر خروجاً عن التوصيف العلمي للمقرر، لكن مادة محادثة نفتح فيها النقاش فيما يمس حياتنا وحياة الطلبة يعتبر خروجاً عن المقرر”.
وأضافت برنس: “بيع كتب وملازم منقولة من على الانترنت بالاجبار على الطلبة شرف ومن تقاليد الجامعة، إنما الدعوة للقراءة المجانية والنقاش عيب، ويخل بتقاليد وأخلاق الجامعة”.
سجال سياسي
رغم حالة التضامن الواسعة مع منى برنس، لكن الواقعة أثارت سجالاً سياسياً آخر، يتعلق بمواقف سياسية سابقة لبرنس، واتهامها بعدم التضامن مع المقموعين سياسياً، وبعض مواقفها بالهجوم على معارضين مصريين محبوسين، وهو ما فتح نقاشاً ساخناً آخر عن استحقاقها للتضامن من عدمه، وهي تتعرض للبطش، وتصبح أحد ضحايا المساس بالحريات الشخصية، وأبدى البعض خلال تضامنه معها التحفظ على مواقفها السياسية السابقة، لكنه يعتبر الدفاع عنها يأتي في إطار الدفاع عن الحريات والمبادئ العامة وليس عن برنس بشخصها، باعتبار أنه عند إطلاق يد الآلة القمعية فإنها تطاول الجميع، ويكون الجميع عرضة للظلم وانتهاك الحقوق.
ملاحقة سابقة
لم تكن تلك هي الواقعة الأولى في ملاحقة برنس، إذ اتهمتها جامعة قناة السويس في 2013 بازدراء الأديان، لكنها حصلت على البراءة، وتمكنت من الحصول على منحة للولايات المتحدة للاساتذة المضطهدين وسافرت كأستاذ زائر في كاليفورنيا سنة 2014-2015، ووفقاً لبرنس فقد تلقت عرضاً لطلب لجوء سياسي بسبب ما تعرضت له، لكنها رفضت نهائياً، وهو الموقف الذي تؤكد عليه حالياً بعد هذا الحكم الأخير، بأنها لن تطلب اللجوء بعد هذا الحكم، مؤكدة “أنا مصرية… وسأظل مصرية. ولن أخرج من مصر مهما حدث”.
ويذكر أن القرار يتزامن مع صدور رواية منى الأخيرة “القط المنتظر”، ورغم إنتاجها في مجال الأدب والترجمة، إلا أن شهرتها جاءت من خلال هذا الفيديو، كما أثارت الكثير من الجدل عندما أعلنت في وقت سابق عن ترشحها لمنصب رئيس الجمهورية في انتخابات 2012، ثم 2018، وهو ما لم يؤخذ على محمل الجدّ، آنذاك.
/النهار/