حين ترى بأذنك… «سوف أجد طريقي إلى البيت»

رحيل الملحن اليوناني الشهير فانجيليس رائد الموسيقى الإلكترونية

رحل فانجيليس صانع العوالم بالنَغمات. في 17 مايو (أيار) 2022 الماضي، همد قلبه الذي طالما لاحق إيقاع الكوكب. توقف خفقانه في باريس فجأة مثلما خفق فجأة في 29 مارس (آذار) 1943 قلب الطفل العابث المتمرد إيفانجيلوس أوديسياس باباثناسيو في بلدة أغريا اليونانية.
حضر إلى الحياة مصطحباً معه ألحانه وأصواتها، جاء كرزمة موسيقية كاملة متكاملة.
مذ كان في السادسة من عمره، رفض فانجيليس تعلم الموسيقى وكتابة النوتات في المعاهد المختصة، لأنها «تعيق إبداعي فالإبداع لا يُدرس»، كما قال الرجل الذي لم يكن يكتب ويجرب موسيقاه أبداً، فقد كانت الألحان تتدفق مباشرة من عقله إلى أذن السامع! «عندما ألحن، أعزف الموسيقى في الوقت نفسه، ولذا كل شيء يكون مباشراً كالبث الحي. لا شيء مبرمجاً مسبقاً».
وعلى حد قوله أيضاً، لأن «الموسيقى تأخذنا إلى أماكن لا تستطيع الكلمات الوصول إليها».
كانت مدرسة ذلك المبدع الاستثنائي هي الطبيعة، وأطلق لمخيلته العنان في رسم عوالمها نغمة نغمة. يلعب بمفرده على لوحات مفاتيح العزف وأجهزة المزج الموسيقي، بينما تندفع قدماه من دواسة إلى أخرى. رجل غامض، مرح، قوي البنية، ذو شعر طويل منسدل على الكتفين ولحية كثة. الوصول إليه متعذر. منعزلاً في استوديوهاته يستكشف عالم الأصوات… هذه كانت صورته في المخيلة بالعقود الأخيرة على الأقل.
افتتن بمعلمته الطبيعة فذهب عقله نحو استكشاف الأرض والمحيطات والفضاء والإنسان والحيوانات والمادة والروح، فتننا بتصويرها بريشة أنغامه. قلة من المبدعين نجحوا في التوفيق بين التجاري والقيمي، والوجداني والعلمي، والأرضي والسماوي، والمألوف والغريب. كان تواقاً إلى خلق أسلوب موسيقي خاص به. شغوفاً باكتشاف أصوات جديدة ومعرفة طبيعة الأصوات من حوله.
اهتم مبكراً في ريعان الطفولة بالموسيقى وجرب الصوت عن طريق قرع الأواني والأسطح وطرق المسامير وأصوات الطبيعة والكائنات، بدأ في العزف في السنة الرابعة وقدم أول حفل موسيقي له على البيانو في السادسة.
ثم حمل كل آلاته وأدواته والأصوات التي جناها من تجاربه إلى الأعمال المصورة.
في موسيقى مسلسل «رؤى الحيوان»، دمج الأصوات الإلكترونية بالطبول ورسم الغابة بالصوت في أذهاننا. وحين حضر الإضرابات الطلابية في باريس في ١٩٦٨ وانخرط بين جموع المتظاهرين، خرج منها بوثيقة صوتية لأعمال الشغب وأصوات الإنذارات والرصاص وصرخات المناضلين والهاربين من أعمال القمع.
أصدر ألبوم «الأرض» الشهير واستلهم الألحان من أنغام بيزنطية وأشرك الآلات النحاسية في الجوقة. ثم أنتج ثنائية «الجنة والجحيم» التي عزف مقطوعاتها وحيداً.
أصدر الموسيقى التصويرية لفيلم «مهرجان البراري»، فنقلت أنغامه نبض براري القارة السوداء وسهوبها، حين مزج الموسيقى الأفريقية بالغربية بطريقة مثالية.
خرج من كوكب الأرض بألبوم «البيدو 0.39»، ليكتشف المجهول في الكون والنجوم ومجاهل الفضاء الخارجي. وعاد إلى الأرض شارحاً حركة الكون والفلسفة الطاوية بألبوم «لولبي» والمقطوعة العبقرية التي لا تنسى «إلى الرجل المجهول».
يعود أدراجه إلى جذوره في اليونان ويطرح ألبوم «قصائد» الذي احتوى على أغانٍ شعبية مغمورة ذاعت واشتهرت بعد ذلك. ومن الشعبي إلى الغرائبي يطرح ألبوماً سماه «أراك لاحقاً» سخِر به من المجتمع المعاصر وموضة العزلة ووظف أصواتاً جديدة تناسب فكرة الألبوم الخلاق!
وسبر أغواراً جديدة في ألبوم «نظام الكون»، وكان عبارة عن موسيقى تصويرية للمسلسل الأميركي الشهير الذي أعاد إشعال الاهتمام الجماهيري بالعلوم مع العالم الشهير كارل ساغان. وكانت الموسيقى أحد أهم أسباب شهرة البرنامج.
في 1981، حدثت سابقة في تاريخ السينما: نجحت الموسيقى التصويرية لفيلم «عربات النار» في تقديم مجموعة من العدائين الشباب في حركة بطيئة على شاطئ اسكوتلندي كئيب تتسارع مع تسارع اللحن مدعوماً بالإيقاع، ويتسارعان أكثر فأكثر كالعدائين، فتلتهب المشاعر وتسمو الروح إلى أقاصي الإحساس بالنصر.
كان فانجيليس أول فنان يضع موسيقى أوركسترالية كاملة لفيلم مستخدماً فقط أجهزة إلكترونية. وحلت حينها الأسطوانة في المرتبة الأول في أميركا ونالت جائزة الأوسكار. كانت تلك الموسيقى هي بطلة الفيلم الفعلية، إذ ربطت المشاهدين وجدانياً بالأبطال، فشكلت عنصراً درامياً لا يختلف عن المؤدين.
صوّر فانجيليس حياة بيكاسو الرسام بالموسيقى، رسم الرسام بالألحان! ثم حاك لنا المشاعر الإنسانية الدامية ومعاناة الفقدان في فيلم «مفقود». خبأ شيئاً ما في ثنايا تلك المقاطع يأخذنا إلى معنى جواني نشعر به ولا نفهمه. يعود بعد ذلك لينشر أغنية «سوف أجد طريقي إلى البيت» وتصبح الأولى في أوروبا!
ويكتب بالموسيقى قصة «القارة القطبية» وحكاية البعثة اليابانية عام 1958 وظروف المناخ في القارة المتجمدة، لنرى بآذاننا جبال الجليد تتكسر.
ويتحدث فانجيليس عن علاقة المخلوقات متناهية الصغر بالطبيعة في موسيقى «مهرجانات التربة»، ويغوص أكثر إلى الجسيمات الأولية للمادة وما لا يرى بـ«روابط غير مرئية».
في 1992، أنجز المقطوعة الملحمية «غزو الجنة» الموسيقى الأبرز في تاريخه لأكثر الشخصيات التاريخية شهرة، وهي كريستوفر كولومبوس. وتزامن الفيلم مع الذكرى 500 لأولى رحلات كولومبوس لفتح العالم الجديد. تجعلنا الموسيقى نحلق فوق الأرض البكر (أميركا) فكأننا نكتشفها للمرة الأولى. وهو ما جعل المخيلة تسرح بعيداً حتى ذاك الزمن البسيط جداً والموغل.
توالت الاكتشافات الموسيقية من «أصوات» الحياة الليلية إلى «كافافيس» الشاعر اليوناني.
وفي مهرجان كان عام 1996، ظهرت لنا المياه من خلال الألبوم الشهير «المحيطات» الذي حاول فيه سبر أغوار الأعماق المائية وحلم الإبحار إلى شطآن بعيدة.
في نهاية التسعينات كان كوكب المريخ الأحمر في أقرب موقع له من الأرض منذ أكثر من عقد، فابتكر له مقطوعة بعنوان «ميثودا» في معبد الرب الأولمبي زوس؛ بعد ذلك الحفل حظي بلقب «فارس فرقة الشرف».
ثم ثبت أن فانجيليس مبدع يتغذى من روح الكوكب بأسره حين طلبت منه اللجنة المشرفة على كأس العالم 2002 تأليف موسيقى تليق بالحدث الجديد – أول كأس عالم في خارج أوروبا وأميركا – في كوريا الجنوبية واليابان. فألف مقطوعة نشعر من خلالها بوحدة العالم، وغدت الأسطوانة الأكثر مبيعاً في البلدين المضيفين.
بعدها بسنوات ألف الموسيقى الملحمية لأشهر ملوك الأرض «الاسكندر» بنهج يلائم تلك الأزمان البعيدة.
في 2018، عندما توفي عالم الفيزياء النظرية البريطاني ستيفن هوكينغ، ألف فانجيليس تأبيناً موسيقياً لدفنه لا تزال وكالة الفضاء الأوروبية تبثه في الفضاء.
نال الكثير من الجوائز العالمية الكبيرة لكن التكريم الأرقى لهكذا قامة خلاقة هو أن كوكباً يدور في مكان ما بين المريخ والمشتري أسمته «ناسا» – 6354 فانجيليس – سيحمل اسمه إلى الأبد. فعندما يموت شخص مثل «فانجيليس» فإن طيفاً جميلاً وحيوياً لن يتكرر يختفي من حياتنا، لذلك سيكون الحزن حالة الجماعة الكونية والكائنات التي تحدث عنها وتحدثت إليه وحده بالنيابة عنا.

الملحن اليوناني الراحل فانجيليس

/الشرق الأوسط/

اترك ردإلغاء الرد