تطوير المساجد التاريخية في السعودية
تتمتع خريطة المناطق في السعودية بحضور غني لما بات يُعرف بـ”المساجد التاريخية” ذات صبغة دينية لافتة تتجلى في جغرافية البلاد، باعتبارها أهم معالم التراث العمراني الحضاري، ويتجاوز عمر بعضها نحو 1000 عام.
ونظراً للمكانة الدينية التي تزخر بها هذه المساجد، وما تمتاز به من أصالة في التصميم العمراني، إلى جانب تمتّعها بمواد بناء تتوافق مع الطبيعة الجغرافية والمناخية، استدركت السعودية ضرورة خلق آلية دعم حكومي تختص بهذه المساجد التاريخية.
اعتمد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، تدشين المرحلة الثانية من مشروع “محمد بن سلمان لتطوير المساجد التاريخية” لما تحظى به من مكانة عظيمة في الدين الإسلامي، إضافة إلى أنها أحد أهم معالم التراث العمراني الحضاري، ولأصالة طابعها المعماري وما تمثله المساجد المشمولة بالبرنامج من عمق تاريخي وثقافي واجتماعي.
وتشمل المرحلة الثانية من مشروع تطوير المساجد التاريخية 30 مسجداً تاريخياً، موزعة على مناطق المملكة الـ 13، بواقع 6 مساجد لمنطقة الرياض، و5 مساجد في منطقة مكة المكرمة، و4 مساجد في منطقة المدينة المنورة، و3 مساجد في منطقة عسير، ومسجدين في المنطقة الشرقية، ومثلهما في كل من الجوف وجازان، ومسجد واحد في كل من الحدود الشمالية، تبوك، والباحة، ونجران، وحائل، والقصيم.
وجرى اختيار المساجد حسب أهميتها التاريخية والتراثية، ومدى ارتباطها بالسيرة النبوية، أو الخلافة الإسلامية، أو تاريخ المملكة العربية السعودية.
ووجّه بن سلمان بتنفيذ المرحلة الثانية للمساجد من قبل شركات سعودية متخصصة في المباني التراثية وذوات خبرة في مجالها، مع أهمية إشراك المهندسين السعوديين للتأكد من المحافظة على الهوية العمرانية الأصيلة لكل مسجد منذ تأسيسه.
تطوير المساجد… حفاظاً على التاريخ
يعد مشروع تطوير المساجد التاريخية واحداً من أكثر المشاريع الحضارية المحافظة على معالم التراث العمراني، إذ يبرز البُعد الحضاري للمملكة، الذي تركز عليه رؤية السعودية 2030، عبر المحافظة على الخصائص العمرانية الأصيلة والاستفادة منها في تطوير تصميم المساجد الحديثة.
تأهيل وترميم وأيادٍ سعودية
يتضمن المشروع تأهيل وترميم 130 مسجداً تاريخياً في مناطق متعددة من المملكة، وانتهت المرحلة الأولى منه، إذ شملت تأهيل 30 مسجداً بتكلفة إجمالية تقدر بأكثر من 50 مليون ريال، من قبل شركات سعودية متخصصة في المباني التراثية، يشرف على عمليات تأهيلها مهندسون سعوديون للتحقق من المحافظة على الهوية العمرانية الأصيلة لكل مسجد منذ تأسيسه.
ويهدف المشروع الذي دشّنه ولي العهد في وقت سابق من عام 2018، تطوير المساجد التاريخية وإعادة نبض الحياة فيها، لأهميتها الدينية ودورها خشية عليها من عدم توافر الرعاية والاهتمام الكافيين ما يستدعي اندثار رمزيتها وفقدانها.
وتتفاوت أعمار المساجد التاريخية ضمن المرحلة الأولى بين 1432 عاماً و60 عاماً، متوزعة في مناطق مختلفة في السعودية، إذ يعود تأسيس أحدها إلى عهد الصحابي جرير بن عبد الله البجلي، وهو مسجد جرير البجلي في محافظة الطائف، فيما تُعرف بعضها على أنها كانت منارة علمية مثل مسجد الشيخ أبو بكر الذي يعود تأسيسه إلى أكثر من 300 سنة في محافظة الأحساء
أدق التفاصيل… حرص ورعاية
وراعى مشروع “محمد بن سلمان لتطوير المساجد التاريخية” أدق التفاصيل لتعود المساجد إلى ما كانت عليه من تصميم بمواد تراثية محلية، وإضافة عناصر جديدة ضرورية مثل تخصيص مصليات للنساء، وتوفير خدمات للأشخاص ذوي الإعاقة وتطوير المرافق الخدمية مثل التكييف والإنارة والصوتيات وتنفيذها بأسلوب يتوافق مع هوية المساجد التاريخية.
وحينما بدأت أعمال الترميم في المرحلة الأولى، تم إجراء الدراسات وتوثيق الأبعاد التاريخية والمعمارية لكل مسجد، واستعراض جميع التحديات التي تحيط بالمساجد من حيث التسهيلات والخدمات التي يجب توافرها ومدى خدمة كل مسجد للمحيط الذي يقع فيه، فضلاً عن المحافظة على الطراز المعماري الذي يميز كل منطقة من مناطق السعودية، التي تعتمد في بعضها على البناء بالأحجار وأخرى بالطين واستخدام الأخشاب المحلية التي تتميز بها كل منطقة.
وبالتوازي مع ذلك، حافظت عملية التطوير والتأهيل على الطابع المعماري للمساجد من حيث الزخارف الجصية، والأسقف التراثية وساحات المساجد التي كانت ملتقى أهل القرى في السعودية في مناسباتهم واستقبال ضيوفهم وللتشاور في تحقيق التكافل الاجتماعي وحل المنازعات، فيما حرصت على إعادة إحياء أقسام لطالما تميّزت بها المساجد القديمة مثل الخلوة، وهو مصطلح يعني مصلى ينفذ تحت أرضية المسجد أو في آخره على ارتفاع معين لاستخدامه في الأجواء الباردة خلال تأدية الصلاة، إضافة إلى المحافظة على مواقع استقبال الضيوف عابري السبيل الملحقة بالمسجد، والمواضئ والآبار التراثية الخاصة بالمسجد.
يعزز مشروع “محمد بن سلمان لتطوير المساجد التاريخية” المكانة الدينية والثقافية للمساجد التاريخية، ويجعلها صالحة للصلاة والعبادة، كما يستعيد وجهها الحضاري وأصالتها العمرانية، علاوة على إبرازه للأبعاد الحضارية للمملكة العربية السعودية، حسب ما ورد في الموقع الرسمي لـ “رؤية 2030”.
الجغرافيا تحكم الأصالة
ويعزز المشروع الاهتمام بتطوير القرى والبلدات التراثية وأواسط المدن التاريخية في السعودية، وإعادة تأهيل تلك المساجد للعبادة والصلاة بعد أن طاولها الهجر في السنوات الماضية، وذلك بعد أن مرّت السعودية خلال العقود الأربعة الماضية بتنمية عمرانية سريعة، كان من آثارها الاتجاه نحو بناء مساجد حديثة، وإهمال معظم المساجد التاريخية، بل وهدمها في بعض الأحيان، وبناء مساجد جديدة مكانها أو ترك المساجد التاريخية والانتقال إلى مساجد حديثة أخرى، ما أدى إلى زوال الكثير منها، إذ إن الكثير من هذه المساجد يقع في قرى تراثية معظمها مهجور، إضافة إلى التأكيد على استعادة أصالتها المعمارية وفقاً لمعطيات مواقعها الجغرافية.
عودة بعد انقطاع
ومع انتهاء المرحلة الأولى من المشروع الديني الحضاري، بدأ عدد من تلك المساجد في معاودة استقبال المصلين بعد الانقطاع عن بعضها قبل فترة الترميم لمدة تزيد على 40 عاماً، لتنطلق مرحلة جديدة لهذه المساجد لتصبح رمزاً دينياً تاريخياً من شأنه المحافظة على الإرث الديني والعمارة الإسلامية وإعادة إحياء القرى التراثية وأواسط المدن التاريخية
/ النهار العربي /