هانوي، هونغ كونغ، أم دبي؟ بيروت أمام الخيار المستحيل

/رامي أسوم – الأخبار/
«علينا أن نختار أي نموذج نريد،
هانوي أم هونغ كونغ؟»
وليد جنبلاط
تنتقل الكليشيه مع الأجيال لتصبح: هم صنعوا من الصحراء جنة (في إشارة إلى دبي) ونحن صنعنا من الجنة صحراء. الكليشيهات كالفيروسات، سهلة وسريعة الانتقال ولا تحتاج إلى عناء تفكير، فالدماغ البشري يحب الوصفات الجاهزة وينفر من التدقيق المجهد لخلاياه.
يغفل المتلقي لتلك المقولات عن حقيقة أنها تقع بالأساس في مغالطة الثنائية الزائفة (false dichotomy) والتي تحصر الخيارات العدة أمام الإنسان، بخيارين اثنين لا ثالث لهما. فبحسب عبارة البيك، ليس لدى بيروت خيارات إلا أن تصبح كدبي (هونغ كونغ)، أو هانوي، ولا مجال لها أن تفكّر، لمجرّد التفكير، مثلاً أن تصبح ميلانو، بيونيس آيريس، أو القاهرة. وكأن التاريخ البشري الحضاري كله عليه أن يضغط نفسه في أحد هذين الخيارين.
يغفل المروّج (والمتلقي أيضاً) لتلك المقولة، أن قرار تحويل مدينة إلى مركز مالي عالمي أو إقليمي (financial hub)، ليس قراراً وطنياً بالدرجة الأولى، بل قرار خارجي ينبع أساساً من المركز الرأسمالي العالمي في زمن ما (بريطانيا قبل الحرب العالمية الثانية، والولايات المتحدة بعدها).
فلكي تصبح مركزاً مالياً إقليمياً في العالم الثالث لا يكفي أن تأخذ القرار بذلك، ثم تشرع ببناء بنية تحتية لاستقبال الاستثمارات الخارجية، وتحضير الموارد البشرية المدربة لإدارة تلك الاستثمارات. بل إن القرار ينبع أصلاً من المركز الرأسمالي العالمي، حسب مصالحه البحتة، ثم يتم اختيار البقعة الجغرافية الأنسب لتنفيذ هذا الخيار، بناءً على اعتبارات جيوسياسية (سيأتي ذكرها)، لكي تتم تهيئة الأرضية لإنشاء المركز الإقليمي قبل معرفة أهل الأرض بذلك.
النماذج التي شهدها العالم الثالث خلال القرن العشرين وحتى الآن، تكاد تنحصر في هونغ كونغ، سنغافورة، والإمارات العربية المتحدة. فهذه الدول أصبحت مراكز رأسمالية إقليمية، تحتضن البنوك، شركات إدارة الأصول (إدارة الاستثمارات والمحافظ المالية)، والمراكز الإقليمية للشركات الغربية التي تفتش عن بيئةٍ ملائمة للانطلاق نحو الأسواق المجاورة لبيع منتجاتها أو خدماتها.
وبدراسة ظروف نشأة كل من تلك «المدن المالية»، نستطيع الاستنتاج أن جميعها نشأ بقرار خارجي بحت، وهدفه الأساسي امتصاص الفائض المالي لدول الإقليم وتحويله إلى دول المركز (بريطانيا ثم الولايات المتحدة)، أي ببساطة فإن وظيفة تلك المدن المالية هي نقل الثروة من الدول المجاورة لها، لاستثمارها في الغرب الصناعي بأدوات مالية متعددة من أسهم شركات ومحافظ مالية، إلى السندات الحكومية الأميركية على وجه الخصوص.
فالولايات المتحدة هي أكبر مستقبل للاستثمارات الخارجية (FDI Foreign Direct Investments) في العالم، ليس بالقيمة المطلقة فحسب، بل نسبةً إلى الناتج المحلي أيضاً. فمؤشر صافي وضع الاستثمار الدولي (Net international investment position) لاقتصاد دولةٍ معينة، يحتسب الفرق بين الأصول المالية الخارجية للدولة (أي التي استثمرتها في دول أخرى)، مقابل الأصول المالية الخارجية لدول أخرى على أراضيها (أي التي استثمرتها تلك الدول في الدولة المعنية)، وهو يكون موجباً في حال كانت الدولة تستثمر في الخارج أكثر من استثمار الدول فيها، ويكون سالباً في حال العكس.
وللمفارقة، فإن الولايات المتحدة لديها أعلى نسبة سلبية في العالم لهذا المؤشر، بلغت حوالى 22 تريليون دولار عام 2024، أي إن العالم يستثمر في أميركا أكثر من استثمارها هي فيه بما يعادل 22 تريليوناً، وهذا يعني أن تلك الثروة الضخمة بكل المقاييس قد تم نقلها من أنحاء الكرة الأرضية إلى الولايات المتحدة، بينما بلغت فقط 368 ملياراً سلبياً في الهند، و3 تريليونات دولار إيجابي في الصين.
ما يعني أن العالم يستثمر في الولايات المتحدة أكثر بـ 60 مرة من استثماره في الهند (على عكس الدعاية العالمية التي تفيد بأن الهند أصبحت نقطة جاذبية للاستثمارات الأجنبية). كما نلاحظ أن وتيرة الاستثمارات الأجنبية التي تدخل إلى الولايات المتحدة بدأت بالتسارع بقوة بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، لترتفع من 3 تريليونات إلى 22 تريليوناً في غضون 16 سنة فقط. أي إنها استحوذت على معظم التدفقات الاستثمارية العالمية في هذه المدة، ما يحرم دول الجنوب من الحصول على حصته العادلة من تلك الاستثمارات.
وعند معاينة وجهات الاستثمار الخارجة من المراكز المالية الإقليمية، وبالذات هونغ كونغ وسنغافورة ودبي، نلاحظ التالي:
حوالى 45% من استثمارات سنغافورة تذهب إلى الغرب وبالتحديد الولايات المتحدة وأوروبا وجزر الكايمان (بحسب مركز الإحصائيات التابع لدولة سنغافورة).
أمّا بالنسبة إلى الإمارات العربية المتحدة، فإنّ الولايات المتحدة وحدها تستحوذ على 40% من استثماراتها الخارجية وقد بلغت تريليون دولار من أصل 2.5 تريليون (بحسب موقع سفارة الإمارات في واشنطن). وربما تصل مع احتساب بريطانيا والاتحاد الأوروبي إلى أكثر من 70% (لا أرقام رسمية، بل مجرد تخمينات).
مع ملاحظة أن الاستثمار الخارجي لهونغ كونغ تحول مع الوقت إلى الصين بدل العالم الغربي، وذلك بعد إعادة ضمها إلى الجمهورية الصينية الشعبية عام 1997.
لكن كما تبين الإحصائيات الرسمية، فإن سنغافورة ودبي لا زالتا تقومان بدورهما بنقل الثروة إلى «العالم الحر».
بدراسة ظروف نشأة كل من تلك «المدن المالية»، نستطيع الاستنتاج أن جميعها نشأ بقرار خارجي بحت، وهدفه الأساسي امتصاص الفائض المالي لدول الإقليم وتحويله إلى دول المركز
ولعلنا نستطيع اختصار شروط وجود تلك المراكز المالية كالتالي:
1- حجمها الصغير جغرافياً وسكانياً، وبالتالي سيكون اقتصادها الوطني ذا قدرة استيعاب منخفضة مقارنةً بالاستثمارات الداخلة إليها، ما يوجب إيجاد وجهات استثمار خارجية للحصول على عوائد مجدية للمستثمرين (وهذا الشرط كان ولا يزال ينطبق على لبنان).
2- وجودها كـ«جزر» في محيط ذي اقتصادات ضخمة (كأندونيسيا وماليزيا وتايلاند وفييتنام بالنسبة إلى سنغافورة، والصين بالنسبة إلى هونغ كونغ، والخليج العربي بالنسبة إلى الإمارات). وتشكّل هذه الجزر ملاذاتٍ ضريبية لرجال الأعمال (وبالتالي هروب الثروات) من تلك الاقتصادات، بسبب قدرة الجزر على اتباع سياسات ضريبية متساهلة، ما ليس في مقدور الاقتصادات الضخمة القيام به لأسباب بنيوية عدة. وهذا ما حدث خلال القرن العشرين وما يزال بالنسبة إلى إندونيسيا وماليزيا اللتين تعانيان من هروب الرساميل نحو سنغافورة، لإعادة تدويرها في اقتصادات أميركا وبريطانيا.
٣- استغلال «مثالية» الأنظمة الاقتصادية المجاورة، لمصلحة «الواقعية» الرأسمالية.
فكما كان لبنان يستفيد من وجود الاقتصادات الاشتراكية في سوريا والعراق، والتي وضعت شروطاً قاسية على عمل الشركات الأجنبية بهدف حفظ موارد البلاد من النهب، ما أدى إلى انتقال ثروات الطبقة البرجوازية السورية والعراقية إلى المصارف اللبنانية، كذلك الأمر في إندونيسيا بالنسبة إلى سنغافورة، والصين بالنسبة إلى هونغ كونغ. مع ملاحظة أن جميع تلك الجزر تلعب دوراً أساسياً في تبييض الأموال الناتجة من فساد الطبقة الحاكمة في الدول المجاورة (إندونيسيا وسنغافورة، سوريا ولبنان، الصين وهونغ كونغ)، وذلك لأن الأنظمة الاقتصادية «المثالية» غالباً ما كانت عرضةً للاستغلال من قبل الأنظمة السياسية الحاكمة في دولها، وتحتاج بالتالي إلى قنوات تصريف لثرواتها المنهوبة من تلك الاقتصادات.
4- وجود تلك الجزر في محيط غني بالثروات الطبيعية وبالتالي قدرتها على امتصاص الفائض المالي المتأتي عن استخراج تلك الثروات (دبي نموذجاً). وقد كان ذلك ينطبق على لبنان في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، بعد الطفرة المالية لدول الخليج العربي، لكن ذلك أصبح متعذراً الآن بوجود الإمارات كمركز مالي إقليمي.
5- تمتّع تلك الجزر المالية بأعلى درجات الحماية العسكرية لصد أي محاولة من الجيران لقضم، أو إنهاء، تلك النماذج الطفيلية.
وللمفارقة، فإن سنغافورة ذات الـ 6 ملايين نسمة تمتلك سلاحاً جوياً أقوى وأحدث من مجموع ما تمتلكه إندونيسا ذات الـ280 مليوناً وماليزيا ذات الـ30 مليوناً.
فالجيش السنغافوري الأميركي التجهيز، بالإضافة إلى أسطول طائراته الـ أف 16 والـ أف 15، يعتبر من الدول القلائل التي استطاعت الحصول على أسراب من طائرات الـ أف 35 الشبحية.
أمّا بالنسبة إلى الإمارات المتحدة، فهي تمتلك أحد أقوى الأساطيل العسكرية الجوية في المنطقة (بعد إسرائيل) من حيث الكمية والحداثة، بالإضافة إلى القواعد العسكرية الأميركية التي تشكّل حماية لها من الأخطار المحتملة (إيران أولاً، والسعودية بنسبة أقل).
وبالطبع، فإن هونغ كونغ كانت جزءاً لا يتجزأ من المملكة البريطانية حتى عام 1997، ما شكل مظلة حماية لها أعفتها من تحدي بناء جيش قوي خاص بها.
6- كل ذلك يتطلب وجود قوانين تحمي الملكية الفردية بصورة غير قابلة للنقاش ترسخ ثقة المستثمرين الإقليميين على المدى البعيد (تكريس الملكية الفردية في لبنان مقابل سياسات التأميم في سوريا كنموذج)، وبناء قوة بشرية ماهرة في إدارة المال، للقيام بخدمة الاستثمارات على أكمل وجه (لبنان، سنغافورة، هونغ كونغ، دبي).
وبالعودة إلى لبنان، فإن بعض الشروط المذكورة تحققت في خمسينيات القرن الماضي، من حيث الموقع الجغرافي والقدرات المعرفية الماهرة في ميدان المال، بل إنه مارس دوره «الناقل للثروة» في عقدي الخمسينيات والستينيات بجدارة، بحسب دراسة المصرفي توفيق كسبار في كتابه «اقتصاد لبنان السياسي 1948-2002» حيث يقول: «الوظيفتان الرئيسيتان للبنوك قبل الحرب كانتا: تمويل الاستيراد وتدوير الودائع بالعملات الأجنبية إلى المراكز المالية الرئيسية في أوروبا».
إن لبنان الذي «أُعطي» وظيفة المركز المالي في المنطقة خلال عقدين من الزمن، لم يعد قادراً على استرجاع تلك الوظيفة لعوامل عدة أهمها:
1- دخول الإمارات إلى صدارة المشهد المالي منذ تسعينيات القرن الماضي، ما جذب فائض الأموال الخليجية إليها، ولم تعد المنطقة بالتالي تحتمل وجود مركزين إقليميين ماليين.
2- تدمير ثروات الدول المجاورة في سوريا والعراق، وبالتالي فلم يعد هناك من ضرورة لوجود مركز إقليمي فرعي (مساعد للمركز الإقليمي في دبي) لامتصاص الفائض من تلك الدول.
3- تجاوز حقبة السياسات الاشتراكية لدى الدول المجاورة، ودخول معظمها في حقبة النيوليبرالية بعد عام 2000.
4- عدم وجود جيش قوي في استطاعته حماية نموذج «الجزيرة المالية» (وهذا كان أحد أهم أسباب فقدان لبنان لوظيفته المالية في المنطقة بعد عام 1970).
وإن كانت سياسة الحياد تتماشى مع متطلبات استمرار البلد كمركز مالي إقليمي، إلا أنه من المطلوب أن يكون حياداً إقليمياً بحتاً (أي عدم الانحياز إلى أحد المحاور الإقليمية فقط). لكن ذلك الحياد ينتفي عند دخول الولايات المتحدة في الصراع الإقليمي، وإلا فإنه سيفقد وظيفته التي أوكلت إليه من قبل الأخيرة. فالحياد في هذا المعنى سيكون حياداً منحازاً بالضرورة للولايات المتحدة عند المفترقات الأساسية. وعند الأخذ في الحسبان أن مصلحة إسرائيل فوق كل اعتبار في سياسات الولايات المتحدة، يصبح واجباً على لبنان أن يقبل بكل ما تمليه عليه سياساتها بخصوص إسرائيل، وبالتالي تنتفي نظرية الحياد من أساسها.
فحياد لبنان لم يحمه من تهجير الفلسطينيين إلى أراضيه عام 48 و67، ولم يكن ليحميه من شلال النزوح السوري خلال الحرب السورية. وذلك لوجود الولايات المتحدة كلاعب أساسي في الحالتين (الفلسطينية والسورية)، ولعدم وجود جيش قوي يستطيع حماية الأراضي اللبنانية من نتائج ما يحدث خارج حدوده.
وبالرجوع إلى شرط الحماية العسكرية للجزيرة المالية، فإن بناء جيش قوي يحتاج إلى موافقة المركز المالي العالمي (الولايات المتحدة) لتسليح الجيش بأحدث المعدات كماً ونوعاً (كما في حالة الإمارات وسنغافورة، وبريطانيا في حالة هونغ كونغ) كما والحرص على إبقاء جيوش الدول المجاورة في موقع متأخر، مقارنةً بجيش المركز المالي الإقليمي.
لكن ذلك لا ينطبق على لبنان، لأن تطبيقه يتعارض مع وجود إسرائيل كدولة سوبرمانية القوة بالنسبة إلى جيرانها، وما رأيناه من منع الأميركيين في مناسبات عدة لتسليح الجيش اللبناني (روسيا مثالاً) إلا دليل على أنه ممنوع على لبنان أن يمتلك القوة العسكرية بحدها الأدنى.
بناء على كل ما تقدّم، وبالاستناد إلى مغالطة الثنائية الزائفة لوليد جنبلاط، وبما أن الخيار الأول (نموذج هونغ كونغ) أصبح مستحيلاً بالنسبة إلى بيروت من دون تغيير جذري على صعيد النظام العالمي (من أحادية القطب إلى تعددية الأقطاب)، لا يبقى لدينا إلا خيار هانوي (مع العلم أن هانوي اليوم مختلفة تماماً عن هانوي السبعينيات).
لكن بالوعي لتلك المغالطة المنطقية يمكننا اختيار نموذج آخر غير هونغ كونغ وغير هانوي، نموذج يعتمد على نظام اقتصادي يقوم على الإنتاج الحقيقي (المعرفي، الصناعي، والزارعي والسياحي) وعلى تخطيط لنمو إيجابي معتدل ولكن مستدام (بدل نمو صاروخي متبوعٍ بانهيار تام كما شهدنا خلال الثلاثين سنة الماضية)، تكون مرتكزاته الثلاثة: الإنتاج، المرونة الإدارية، العدالة الاجتماعية، وبناء جيش قوي لحماية الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي