عادات رمضان المُحْدَثة.. موائد فاخرة وأيدٍ مخضبة بالدماء تدعو لغزة
/سامر زريق- الرائد نيوز/

شهر رمضان المبارك هو شهر عظيم المكانة عند المسلمين، سواءً من ناحية العبادات والطاعات، أم من ناحية العادات والتقاليد التي تراكمت على مر العصور، وصارت بمثابة طابع تتمايز به المجتمعات والحواضر العربية والإسلامية. بيد أنه في العقود الأخيرة، ولا سيما في عصر ما بعد الحداثة، دخلت الكثير من العادات والقيم “المُحْدَثة” على الشهر الكريم، وأسهمت في تغيير الكثير من المفاهيم وتحويرها.
الموائد الفارهة والكرتونة
فيما مضى، كان شهر رمضان يشكل مناسبة لاجتماع العائلة على مائدة الإفطار. بيد أن الحداثة ضربت هذا التقليد، حيث أخلت طاولة العائلة مكانها للطاولات “العرمرمية”، الحافلة بما لذ وطاب من صنوف الطعام والحلويات في المطاعم الفاخرة. هذه الافطارات باتت في السنوات الأخيرة من السمات البارزة في الشهر الكريم، بحيث صار السياسيون ورجال الأعمال وصفوة المجتمع، والشركات والمؤسسات والنوادي الاجتماعية والثقافية والرياضية، يتسابقون في إقامة الإفطارات التي تخلو من أي قيمة حقيقية، ويغلب عليها طابع “البرستيج”، والصور التي توزع بكثافة عبر شبكات التواصل الاجتماعي، أو طابع التبرعات للبعض منها.
يروي بعض الذين حضروا إفطارات حاشدة وفاخرة في السنوات السابقة، بأنهم جلسوا على طاولات لا يعرفون الجالسين بقربهم، وبالكاد تبادلوا معهم سلاماً مشفوعاً بعبارات مجاملة تقليدية، ثم استمعوا الى بعض الكلمات الجوفاء على وقع صليل الملاعق في الصحون. ليغادروا بعدها إما الى المساجد، أو الى الملتقى في المقاهي. فما هي الفائدة التي تقدمها إفطارات من هذا القبيل بالمقارنة مع تكاليفها الباهظة، إلا الصور المزدانة بابتسامات جافة؟ ومع ذلك فإن هذا التقليد في تطور مضطرد.
في المقابل،، وتأسياً بما يغرسه الشهر الفضيل في نفوس المسلمين من قيم المودة والرحمة والإنسانية، يكثر توزيع الحصص الغذائية، ويقوم العديد من الأثرياء المسلمين بإخراج زكاة أموالهم خلال شهر رمضان. لكن العادات المحدثة أيضاً حولت الكثير هذه الأعمال الى ما يشبه “موسم التسوق”، بحيث صار العشرات ينتظرون قدوم هذا الشهر من أجل الحصول على العديد من الحصص، بعضهم من أجل بيعها للمحلات التجارية، وبعضهم الآخر من أجل تكبير المخزون المنزلي. وللأسف الشديد فإن عدم التنسيق بين المشرفين على هذه الأعمال للوصول الى أكبر قاعدة ممكنة من المستفيدين، يجعل الاستفادة منها قاصرة على فئة محدودة، مقابل حرمان العشرات من المستحقين. ويشتكي العديد من العاملين في مجال التقديمات الاجتماعية من تسلط بعض الأشخاص الذين يعرفونهم بالاسم، بهدف الحصول على عشرات الحصص، حيث تحول الأمر الى ثقافة ممجوجة ومنفرة.
رصاص ومفرقعات “رمضانية”
خلال دردشة مع أحد الأطباء في طرابلس، قال أنه دائماً ما كان يستغرب عدم ترحيب والده بشهر رمضان المبارك، وأنه كان يرجع الأمر الى الأعباء المادية التي تثقل كاهل العائلات ولا سيما أصحاب الدخل المحدود. لكنه في السنوات الأخيرة، صار يشاطر والده نفس المشاعر، نظراً لما يعاينه من كثرة المشاحنات والإشكالات خلال الشهر الفضيل، والتي تتحول شريحة واسعة منها الى اشتباكات دموية.
والحال أنه ورغم كل الجهود التي يبذلها رجال الدين في الخطب والوعظ من حض الناس على السكينة والهدوء، وتذكيرهم بفضائل وقيم الشهر الكريم، إلا أن شهر رمضان صار علامة مسجلة في الإشكالات اليومية. وهنا لا بد من الإشارة الى أن القضية ليست نتاج تقصير أمني أو قضائي، بقدر ما هي آفة اجتماعية تطورت على مر السنوات، وتستلزم معالجات أكثر عمقاً وتأثيراً. في أيلول الماضي، أصدرت قاضية قرارها الظني في اشتباك بين عائلتين في إحدى القرى ذهب ضحيته 5 قتلى من عائلة واحدة، على خلفية إشكال حصل في شهر رمضان عام 2021 وتطور فيما بعد. وطلبت القاضية عقوبة الإعدام لعدد كبير من المتهمين، دون أن يكون لهذا الحكم أي تأثير في الحد من نمو آفة الاشتباكات العائلية.
هذه السنة، استبشر الناس خيراً في طرابلس بحملة التسابق على إضاءة الشوارع والساحات وتزيينها بالزينة الرمضانية. لكن ما إن دخل أول أيام الشهر حتى بدأ الرصاص يزغرد في عاصمة الشمال، كما سائر المدن والأرياف الإسلامية، ويحصد الأرواح والجرحى، من أجل أسباب أقل ما يقال عنها أنها عادية، مثل قطع شجرة، أو نظرة لم تعجب أحدهم، أو أفضلية مرور، أو بسبب بسطة وما شابه.
فضلاً عن ظاهرة رمضانية نمت في العقود الأخيرة وهي المفرقعات والتي لطالما تسببت ولا تزال بإشكالات لا حصر لها، سرعان ما تتحول الى اشتباكات دموية. ناهيكم عن المشاحنات الهائلة التي تحصل في الهزيع الأخير من اليوم، حينما تدخل العشرات من السيارات والدراجات النارية في سباق محموم من أجل الوصول الى مائدة الإفطار، فتصير الطرقات قنبلة موقوتة وأفخاخاً منصوبة.
دعوة الدماء
اللافت أن الإشكالات والاشتباكات يشترك فيها العديد من رواد المساجد، ممن يحرصون على تأدية الصلوات في وقتها وتلاوة القرآن. الأمر الذي يصيب العلماء والمشايخ بالذهول، إذ كيف لرجل أن يطلق النار على جاره أو ابن الحي أو على أي شخص، منتهكاً حرمة الدماء، وهي من أعظم الحرمات عند الله، ثم يدخل المسجد كي يصلي، ويرفع يديه المخضبتين بالدماء الى الله، ويلهج في الدعاء خاصة لأهل غزة، وربما قد يذرف العبرات خشوعاً؟ ثم تراه بعد ذلك يخرج من المسجد، ويصب جام غضبه على الدولة ومؤسساتها وأجهزتها الأمنية التي “تتآمر” على السنة، فتترك مناطقهم أسيرة فوضى الرصاص وقوة العضلات. وقد خصص أكثر من خطيب في طرابلس وجوارها خطبة الجمعة لهذا الموضوع بالذات، نظراً للحوادث الأليمة التي حصلت، دون أن يكون لها أي تأثير يذكر، حيث استمرت كل هذه الظواهر طيلة أيام الشهر الفضيل، ولم تنفع معها لا خطة أمنية، ولا مصالحات اجتماعية، ولا مواعظ دينية.
واقع الحال أن اللاعبين الرئيسيين في هذه الإشكالات لا يشكلون سوى أقلية محدودة في المجتمعات المدينية أو الريفية، لكن المشكلة أنهم يجرون عوائل وأحياء بأكملها الى هذه الإشكالات، فتتناسل عمليات الانتقام والثأر فيما بعد، وبذلك فإنهم يسهمون في ترسيخ هذه الثقافة الذي لا تزال مرفوضة لدى الغالبية.
مع ذلك، ورغم كل ما سبق، ورغم الأحاديث التي تترى في الشارع عن الإشكالات التي ستحدث حينما تفتح الأسواق أبوابها في الليالي الرمضانية بدافع فرض الخوة، كما هو الحال في السنوات السابقة، إلا أن كل ذلك لم يؤثر في حيوية “الدورة الاقتصادية الرمضانية”، وازدحام الأسواق والمقاهي والمطاعم ومحلات الحلويات، وسعي فاعلي الخير داخل لبنان وفي المهاجر الى ابتكار أساليب جديدة لإيصال المساعدات الى العائلات المتعففة، فيما يمثل فعل مقاومة للغالبية الصامتة، يعكس إصرارها على ثقافة الحياة، وتمسكها بالعادات الأصيلة، وبرسم الابتسامة على وجوه الأطفال، والوجوه التي أضنتها الفاقة، تأكيداً منها على أن نفحات الشهر الكريم لا تزال تسري في الأوصال. فمهما فعلت القيم المحدثة، يبقى شهر رمضان كريماً في عطاياه.