سكان قرى جنوب لبنان يستعدّون للتأقلم مع القصف الإسرائيلي

/نذير رضا – الشرق الأوسط/

تستعيد المنطقة الحدودية في جنوب لبنان شكل صراع قديم كانت صفحته طُويت في عام 2000، إثر تحرير الجنوب، ويتحضر السكان للتأقلم مع أصوات القصف وإكمال حياتهم بطريقة طبيعية، في مقابل تراجع النشاط الاقتصادي إلى حدوده الدنيا، وإقامة غير المضطرين في منطقة «أكثر أماناً».

على مدى 25 يوماً من القصف المتبادل بين «حزب الله» والقوات الإسرائيلية، بدأت تتبلور صورة مختلفة للمنطقة الحدودية التي شهدت منذ عام 2000 حيوية كبيرة لجهة إقامة السكان فيها، خصوصاً في فترة الصيف، وشهدت حركة عمرانية كبيرة، وارتفعت إثرها أسعار العقارات والأراضي، فضلاً عن الحركة السياحية صيفاً، والمشاريع التي افتُتحت مدفوعة بـ«أمان وفرته قواعد الاشتباك»، كما كان يقول السكان.

عودة جزئية

لكن سياق العمليات العسكرية التي انطلقت بالتوازي مع حرب غزة، غيّر الكثير من أدبيات العيش في تلك المنطقة. نزح آلاف السكان المقيمين في الأسبوع الأول، خوفاً من توسع رقعة المعركة إلى حرب كبيرة، كما أحجم أهالي المنطقة الذين يقيمون في بيروت، عن ارتياد قراهم ومنازلهم في عطلة نهاية الأسبوع. أما في الأسبوع الأخير فطرأت تغييرات أخرى؛ إذ عاد المزارعون إلى حقولهم، كما عاد من لا سبيل له بالإقامة في مناطق أخرى «بعد أن تراجعت احتمالات الحرب الواسعة»، حسبما يقول لبنانيون يتحدرون من تلك المناطق لـ«الشرق الأوسط»، مؤكدين أنهم لا طاقة لهم على استئجار بيوت جديدة وترك الأرزاق والمحاصيل، كما يفضلون الإقامة في منازلهم «ما دام أنه لا خطر من استهداف المنازل المدنية حتى الآن أقل بفعل قواعد الاشتباك التي وضعها الطرفان»، بدلاً من الإقامة في مدارس وتلقي مساعدات، «خصوصاً أننا على أبواب الشتاء».

سياق عسكري «منضبط»

وبدت المعركة بين «حزب الله» والقوات الإسرائيلية مضبوطة تحت سقف قواعد الاشتباك بين الطرفين، وتتمثل في تبادل محدود للقصف، يتصاعد بعد مقتل أشخاص من الطرفين، وسرعان ما يهدأ. ونادراً ما طال القصف مواقع مأهولة بالمدنيين، حيث أسفر القصف في الجانب اللبناني عن مقتل 7 مدنيين منذ بدء التوتر، فيما لم تعلن إسرائيل عن مقتل أي مدني، ما يشير إلى محاولة تحييد المدنيين؛ منعاً لتوسع الحرب. بالموازاة، يركز «حزب الله» على قصف أهداف عسكرية، فيما تركز القوات الإسرائيلية على قصف تحركات الحزب ومواقعه والغطاء النباتي الذي يُحتمل أنه يخبئ مقاتليه، مما أدى إلى إحراق مساحات واسعة من الغطاء النباتي على الحدود.

مرحلة شبيهة بما قبل 2000

وتشبه هذه المناوشات، الوضع العسكري الذي كان رائجاً في قرى الجنوب قبل تحرير عام 2000 الموجودة في شمال نهر الليطاني، بالنظر إلى أن جنوبه كانت تحتله إسرائيل بالكامل. قرى المواجهة في ذلك الوقت في أقضية جزين والنبطية وبنت جبيل ومرجعيون وصور، كانت تتعرض أطرافها لقصف إسرائيلي، كما بعض المنازل المدنية، لكن قسماً من سكانها الذي يناهز الـ35 في المائة، كان يقيم فيها، ويكمل حياته بطريقة طبيعية.

ويقول سكان من قرى عربصاليم والنبطية الفوقا ومجدل سلم والقليلة، إن الناس في ذلك الوقت اعتادوا على القصف وتأقلموا معه، وكانوا ينزحون من قراهم في الحروب والتصعيد الكبير مثل حرب 1993 وحرب 1996. ويقول قاسم من بلدة السلطانية لـ«الشرق الأوسط» إنه في تلك المرحلة «كنا نرتاد المدرسة الرسمية، وعند بدء القصف كنا ننزل إلى الملجأ، لنصعد مجدداً إلى صفوفنا الدراسية بعد هدوء القصف»، لافتاً إلى أن والده «كان يواصل عمله بشكل طبيعي، كما أن جيرانه كانوا يرتادون القرية في الصيف لأسابيع قليلة».

الآن، باتت هناك قناعة عند بعض السكان الذين لا خيار آخر لهم، للتأقلم، رغم تشكيكهم بأن الحالة ستطول كما كانت عليه قبل عام 2000 لمدة 15 عاماً، «بالنظر إلى أنه في تلك المرحلة، كانت إسرائيل تحتل أراضي لبنانية باتت عمقاً أمنياً لها، أما اليوم فإن العمق الأمني بات في المستوطنات الإسرائيلية حيث توقفت الحياة عندهم كما هي الحال عندنا، ولم يرتادوا بساتينهم ومزارعهم ومصانعهم، خلافاً للواقع الذي كان قائماً قبل تحرير عام 2000».

عودة المدارس والمزارعين

تتخذ الحياة في القرى الحدودية في الجنوب اليوم، هذا الشكل من الحياة، بعد 25 يوماً من التوتر. بدأت الحياة في الأسبوع الأخير تستعيد جزءاً من حيويتها. وتقول مصادر بلدية في قضاء بنت جبيل لـ«الشرق الأوسط»، إن العائدين لا تتعدى نسبتهم الـ20 في المائة من السكان، لافتة إلى أن هؤلاء «من المزارعين ومالكي الورش الصغيرة ومديري المهن الفردية وأصحاب المزارع»، وقد عادوا لجمع محاصيلهم.

وأعادت بعض المدارس، بدءاً من يوم الأربعاء، استئناف صفوفها الدراسية، وهو قرار اتخذه بعض مديري المدارس في القرى غير المواجهة مباشرة على الحدود، بعدما أتاحت لهم وزارة التربية حق تقدير الموقف المناسب على ضوء التوترات الأمنية. ففيما أغلقت المدارس في البلدات الواقعة مباشرة على الحدود، فتحت بعض المدارس الأخرى أبوابها، لكنها لم تستقبل العدد الكبير من التلامذة بعد نزوح عائلات كثيرة. وتقول مدرسة في بلدة محيطة بمدينة مرجعيون لـ«الشرق الأوسط»، إن 80 تلميذاً فقط من أصل 300 حضروا إلى صفوفهم، بينما الآخرون اندمجوا في مدارس أخرى، رسمية أو خاصة، في مقرات إقامتهم الجديدة.

تبدّل بالنشاط الاقتصادي

وحركة النزوح إضافة إلى التوتر، حتى لو كان محدوداً ومضبوطاً، قلّصت إلى حد كبير الحركة التجارية في المنطقة، حيث أحجمت شركات كثيرة عن إرسال شاحناتها المحملة بالبضائع إلى المناطق الجنوبية، وذلك خوفاً من أي تطور أمني، مما اضطر أصحاب متاجر البقالة والمهن الصغيرة إلى ارتياد المدن مثل النبطية وصور وغيرها من البلدات الكبيرة التي تتضمن مستودعات غذائية، بغرض التبضع لمتاجرها، وهي ظاهرة تشبه إلى حد بعيد القرى التي كانت مواجهة للشريط الحدودي الأول شمال الليطاني قبل تحرير عام 2000.

وفي الوقت نفسه، تقلص النشاط التجاري، كما توقف القسم الأكبر من مشاريع البناء، علماً بأن المنطقة كانت، حتى الشهر الماضي، تشهد ازدهاراً بحركة العمران الضخمة، وذلك إثر مغادرة السكان وتوقف الورش خوفاً من حرب كبيرة أو استهداف إسرائيلي لمنازل المدنيين، تقضي على استثمارات بعشرات آلاف الدولارات.

اترك ردإلغاء الرد