وزير الداخلية ورئاسة الحكومة… وسعد وطلعت!
/سامر زريق- الرائد نيوز/
حسب تركيبة النظام اللبناني وأعرافه وآليات عمله، تعد وزارة الداخلية والبلديات أهم حقيبة وزارية على الإطلاق. فهي مملكة قائمة بذاتها تتبع لها مديريات وإدارات تجعل من حامل الحقيبة وزيراً فوق العادة.
فهو رئيس مجلس الأمن المركزي الذي تتبع له قوى الأمن الداخلي، والأمن العام، وأمن الدولة، مع كل ما لهذه الأجهزة من سطوة ونفوذ. فضلاً عن مديرية الأحوال الشخصية بكل أهوالها وتشعباتها التي لا تنتهي، وهيئة إدارة السير بكل دهاليزها.
ناهيكم عن المحافظين والبلديات، بما يمثلان من أرفع سلطتين محليتين. كل ذلك يمنح أي وزير داخلية القدرة على بناء نفوذ هائل من خلال ينابيع الخدمات التي لا تنضب، والتي تعد الوسيلة الأمضى والأعرق لإعادة إنتاج النفوذ السياسي، أو لصنع نجم أو زعيم سياسي جديد.
“صنائع” الرئاسة
عقب تسميته وزيراً لهذه الحقيبة الذهبية، قيل تارة أنه مدعوم من التيار البرتقالي، وقيل طوراً أن توزيره كان بالتوافق بين تيار المستقبل والرئيس ميقاتي. وبين هذا وذاك، أقر الوزير بسام مولوي في مقابلة تلفزيونية أنه خضع لامتحان كفاءة باسيلي، وذلك بطلب من رئيس الحكومة، لكنه ليس عونياً ولا مستقبلياً.
منذ وطأت قدماه أرض الوزارة في الصنائع، برع مولوي في استخدام خطاب شعبوي ممجوج، محاولاً إظهار نفسه بصورة الوزير المثالي والديموقراطي، ساعياً الى عدم اقتفاء آثار سلفيه. ريا الحسن التي وأدت الانتفاضة تجربتها الوليدة في مهدها، كأول سيدة عربية تتولى هذا المنصب الصعب والمعقد. ومحمد فهمي الذي تصدعت تجربته بفعل ضعف الحكومة واتخاذها من قبل جميع القوى السياسية، وقوى الانتفاضة، مثل الكيس الذي يتمرن به الملاكمون.
ما أخفاه مولوي ولم يظهره، هو طموحه في الانتقال الى السراي الكبير من الصنائع التي يتنسم الداخل اليها عبق رئاسة الحكومة، ولا سيما أنها كانت القصر الحكومي سابقاً، وليس في عهد أي رئيس، بل في عهد رفيق الحريري، أبرز شخصية تولت رئاسة الحكومة في تاريخ الدولة. الى أن أنجز ترميم السراي وأعاد بعثها من جديد، ونقش على بابها “لو دامت لغيرك لما اتصلت إليك”، وسلم مفاتيحها عام 1998 بعد أسابيع على افتتاحها، الى الرئيس الجديد إميل لحود الواصل الى الرئاسة على صهوة جواد الاستخبارات السورية وربيبتها اللبنانية. فسلم لحود أو ضباط الاستخبارات المفاتيح الى الرئيس سليم الحص، الذي عاد وخرج من الباب الصغير الى التقاعد السياسي.
بالطبع يحق لأي شخصية سنية أن تطمح الى رئاسة الحكومة. بيد أنه قبل ذلك يجب التمعن كثيراً في سير رؤساء الحكومات ومصائرهم. فما بين رفيق الحريري وسليم الحص وحسان دياب هوة كبيرة جداً لا يردمها لقب “دولة الرئيس”. فما خلا قضية انفجار مرفأ بيروت، من ذا الذي يذكر حسان دياب اليوم؟
السلطة “تاج الغواية”
السلطة هي تاج مزخرف يغوي أي إنسان، وبخاصة أولئك الذي تذوقوا شطراً منها أو رأوه رأي العين، من دون الالتفات الى القدرات والظروف والمآلات. ذلك أن كل واحد يظن في نفسه الحذاقة والمهارة التي تفوق ما لدى أسلافه.
عمل الوزير مولوي في الشهور الأولى لولايته على كسب أطراف النزاع السياسي من قوى سياسية وثورية الى صفه بخطاب معسول يبيع فيه مجموعات “انتفاضة 17 تشرين” التي كانت تعد العدة للانتخابات النيابية كلاماً معسولاً يظهر فيه أنه معها بل واحد “منهم وفيهم”. وفي الوقت عينه كان حريصاً على ابتداع توازن ذهبي مع مختلف قوى السلطة بكل أطيافها.
وللأمانة فقد نجح في تقديم نفسه كوزير نشيط وعلى مسافة واحدة من الجميع، وبخاصة في الاستحقاق النيابي، محافظاً في الوقت نفسه على التركة الحريرية التي أوكل حمايتها من الجشع العوني. بيد أنه كان خلال هذا الوقت يتعرف على دهاليز الداخلية، ومراكز القوة فيها.
ولأنه يعلم أنه ما من شخص يستطيع دخول السراي الحكومي من دون ضوء أخضر عربي، فإنه عمل على استغلال قيام حزب الله ببعض الأنشطة ضد دول الخليج العربي، مثل مؤتمر المعارضة البحرينية، وتعليق بعض اللافتات المسيئة الى السعودية، من أجل تقديم نفسه بصورة أكثر اللبنانيين وفاءً، وذلك من خلال بعض الكتب الجوفاء التي حولها الى الأجهزة الأمنية لملاحقة هذه الأنشطة ومنعها، مع تصوير هذه الكتب وتسويقها عبر الإعلام، وهو العارف أنها مجرد كلام بكلام، لكنه بالمحصلة رمى كرة النار في حضن الأجهزة الأمنية.
وبالطبع فقد طرب الوزير بالمعازف التي أهديت اليه من بعض جمهور حزب الله، لا من قياداته التي تترك لجميع السياسيين هامشاً واسعاً لتسجيل النقاط. فما دام أنه يسيطر على القرار، لن يضيره كتاب حبر سيلقى الى جانب أخوته في الخزائن.
من الظل الى الصدارة
وكما أسلفنا، فإن وزارة الداخلية هي مفتاح نفوذ، لكن فقط لمن يجيد استخدامه، فكيف الحال بمن هو قاضٍ وأستاذ علم الطلاب القانون وماهيته ومواده؟ فمع أن مولوي فتح باب الخدمات على مصراعيه، إلا أن ذلك لم يفده في بناء شعبية تحتاج وقتاً طويلاً. أتته الفرصة المناسبة لبناء مشروعية سنية وإسلامية، من خلال قضية المثليين وأنشطتهم التي حاولوا القيام بها. وهنا استغل الوزير الصلاحيات التي يمنحه إياها القانون من جهة، وعدم قانونية تلك الأنشطة، على الأقل حتى الآن، لا من أجل منعها بقدر ما كان الهدف الحصول على تأييد عوام السنة والمؤسسة الدينية، وهو ما كان.
دخل الرجل مجهولاً الى الصنائع، وخلال سنتين ونيف، نجح بحصافته ودهاءه في تحصيل تأييد سني يفوق ما لدى الكثير من النواب، وفي بناء رصيد علاقات، جعلاه في مقدمة المرشحين لرئاسة الحكومة. كما أنه طفق يراكم في كليهما، فأحدث ثورة في مكتبه وبين مساعديه. أتبعها مؤخراً بصدام ظاهره قانوني محق، وباطنه مفتعل مع مدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان، وذلك بهدف تحجيم الأخير.
كل ما يحكى عن ذرائع قانونية محق تماماً، لكن مولوي كان ذكياً، حيث انتظر اللحظة المناسبة كي يطبق القانون، ليضرب عدة عصافير بحجر واحد: الأول يكسب تأييد قسم واسع من الشارع المسيحي المتأثر بما روجه التيار العوني عن اللواء عثمان. والثاني يكسب مؤسسة قوى الأمن الى صفه بالنظر الى ما سمعه مولوي، وما هو موجود على مكتبه من تقارير عن حجم الامتعاض داخل المؤسسة من قرارات عثمان وأسلوبه في التعاطي مع مرؤوسيه، معطوفاً على غضب واسع لدى عناصر وأفراد المؤسسة من معاناتهم مع رواتب هزيلة وطبابة غير موجودة تقريباً، بعكس ما هو الحال لدى الأجهزة الأمنية الأخرى. والثالث الضغط على تيار المستقبل، للتخفف من ثقل تركته أو على الأقل ترسيم توازن جديد مع رجاله في الداخلية.
بين الأمير والصدر الأعظم
بمطلق الأحوال فإن مولوي قدم نفسه بصورة الإصلاحي ورجل القانون الذي لا يقيم وزناً لمن يخالف القوانين حتى لو كان ابن ملّته. وهو نموذج سني مكرر ومستهلك، ولا يزال ينسخ نفسه مع كل وجه سني جديد. ما يجدر التوقف عنده، هو اختفاء وزير الداخلية في اللحظات الحساسة مثل معارك مخيم الحلوة، وحادثة الكحالة، وسواها من قضايا تشكل اختبارات حقيقية فر منها الى ظل الحكومة المطاط وغير الفعال.
الجدير بالذكر أن جذور عائلة مولوي عائدة كما يشير اسمها الى تركيا. وفي التاريخ التركي، على اختلاف دوله، وزراء ورجال دولة يشكلون نماذج تستحق التمعن بسيرتها. نذكر منها رجلان:
الأول سعد الدين كوبك، أو الأمير سعد الدين، الذين كان وزيراً فوق العادة في دولة سلاجقة الروم، ونجح بدهاءه الشديد في قتل وتحييد جميع منافسيه على السلطة، وصار أقوى من السلطان نفسه، وبخاصة في عهد غياث الدين كيخسرو الثاني نجل علاء الدين كيقباد، الى درجة مثوله أمام حضرته بسيفه.
والثاني هو طلعت باشا، الضلع الثالث في مثلث الحكم العثماني في هزيعه الأخير مع جمال وأنور باشا، اللذان فاقاه شهرة وحضوراً، لكنه كان هو من يحكم فعلياً، ويحركهما كيفما يريد، واتبع في سبيل الوصول الى وزارة الداخلية، ومنها الى الصدارة العظمى سبلاً تنم عن مدى دهائه وسعى حيلته، حيث انتسب الى الماسونية والبكتاشية في نفس الوقت.
بيد أن الرجلان تسبب طموحهما الزائد، وعدم تبصرهما في الظروف الدولية والتوازنات السياسية، في زوال دولتيهما الى الأبد. ليس ذلك فحسب، بل أن كلاً منهما هوى من القمة الى القاع بسرعة مذهلة، وليس أي قاع، بل قاع التاريخ، مصحوبين بجبل من الكراهية التي لم تندثر حتى يومنا هذا.