في ذكرى ضياع الرسائل الدافئة

نعمه العبادي

بعد أن تشابهت الخطوط، وتماثلت الاحرف، وغابت هوية الكاتب وحل محلها هوية البرنامج والتطبيق والجهاز، وصار القرب والبعد مقاسه تغطية، صار حقاً علينا أن ننعى بأفتجاع، أوراقاً كان حبرها ترجمة حسية صادقة لإهتزازات الاصابع التي خطت حروفها.

لا تنتمي هذه المقاربة إلى مقولات تفضيل القديم مهما كان ورفض كل حديث من عقدة نفسية أو موقف فكري، كما أنها ليست جاحدة لما قدمته التكنلوجيا من فتوحات عظيمة في عالم التواصل، ولكنها خلجات أفتقدت ثلمة بائنة في جسد الجمال والكمال لحياتنا المتصلة حد التداخل بين ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وهي عريضة شجن تقف أمام بقايا مظاريف اصفرت حافاتها، ونتف من مراسيل تغيرت ملامح خطوطها، لتذرف بين يديها دمعة ذكرى.

في الاسبوع الاول من شروعنا في الصف الثالث الابتدائي، طلب معلمنا الذي كان يقوم بكل الادوار، أن نحضر ورقة ومظروفاً، ونكتب رسالة الى أي أحد نرغب في توجيه رسالة له، ثم نضع الرسالة في المظروف ونغلقه، ونكتب عنواناً حقيقياً أو افتراضياً عليه، ونسلم الرسالة له، وهي مبادرة في نهج التعليم لم أسمع من أحد آخر أنه تم تجريبها في مدرسة اخرى.

ذهبت الى الدكان البسيط في قريتنا والذي يبيع كل شيء، وأشتريت ورقة ومظروفاً بخمسة عشر فلساً، وكتبت رسالة لعمي رحمه الله الذي كانت لي معه علاقة مميزة، والذي كان رحمه الله يعيش معنا في نفس البيت.

كان البريد وساعيه لهما وجود مميز في حياة الانسانية، فقد كان العمل والتجارة والحب والثقافة وحتى الاسرار تنتقل عبر رزم من الورق والمظاريف المختلفة الاشكال والالوان.

رسائل تسودت بأحبار مختلفة، وألوان متعددة، ونماذج مختلفة من الورق من حيث الجودة والكلفة والوفرة ومحل الارسال وظروفه، تترجم كتابتها بشكل واضح ودقيق هوية كاتبها، وتفصح ارتجافات يده، وحركات خطوطه عن كل المكنون الذي يريد تفريغه على تلك الورقة، وما يعنيه له المرسال والمرسل إليه.

يستجمع المرسل فكرة كاملة، يسودها بكل تفاصيلها، محاولاً تحميل صفحته او صفحاته كل ما يريد قوله، وهي قطعة تنقل الى قارئها تمام تلك الفكرة بكل ما ورائياتها، بينما تبعثر مداخلة الحديث وتشابك الارسال المتداخل في رسائل اليوم، المضامين الشاملة والمقصد التام، وتحوله الى نسيج مغزول من حروف الطرفين، يصعب تمييز الحدود فيما بينها، أو على الاقل تصبح مثل الدائرة، بينما تحمل رسائلنا القديمة شعاعاً يندفع من اعماق المرسل الى آفاق المرسل إليه، وقد يقابله شعاع معاكس أو قد يبقى فريداً يتوقف مداه وطاقته على ما يحمل من شحنات.

في رسائلنا القديمة تنكشف ظروف المرسل ولحظته ومكانته واعتباراته من خلال شكل الورقة ومادتها، فتأتي رسائل السجن حتى على ورق البافرا بحسب المرحوم عريان السيد خلف، وعلى بقايا علب الدخان والقصاصات الصغيرة، وهكذا الرسائل التي تختلس لحظات عاجلة دون أن يتيح لها القدر ما يكفي من الزمن لتلملم اوراقها، بينما يظهر الامان والرخاء، بل وحتى التراتبية الاجتماعية والثقافية على وجه رسائل ومظاريف أخرى، حيث ألوانها واشكالها، بينما تتساوى صحائف رسائلنا اليوم بحسب التطبيق والجهاز، وتغيب خصوصية الظرف والمكان، وتصبح الافضلية في الشكل متوقفة على مهاراة المرسل في تجميل رسالته بما يستطيع من اضافات فنية، وهنا تفقد تلك الاضافة مكانتها في تمييز احساس عن احساس ومقصد عن مقصد ومحتوى عن آخر، وتصبح مجرد مفاضلة تقنية.

تفصح رسائل الامس عن وجع البعد، ومرارة الانتظار، وتحمل في طياتها رائحة الدروب البعيدة التي قطعتها، بل توصل كل لحظات الخوف والامان الذي مرت بها وهي تنتقل من حلقة وصل الى حلقة اخرى، بينما يغدو فارق القرب والبعد في رسائل اليوم مجرد تغطية وكفاءة شبكة وجهاز، فالبعد والقرب يتحدد بحسبها.

في رسائل الامس للهوامش الفارغة رمزية خاصة تحكيها، فتأتي الرسائل التي تنشد الفخامة والعلو او التي تخرج إسقاطاً لفرض، او التي لم يتسع لها الزمن الكافي لتسويدها، او التي تعبر عن مزاج يميل الى الاقتضاب، واسعة الحواشي، كبيرة الفضاء، تنزوي حروفها في مساحة ضيقة بينما يأخذ الفضاء الفارغ مساحة عظيمة منها حتى يصدق عليها انها ورقة فارغة فيها بعض السطور، بينما تأتي رسائل الشوق والعشق والعتاب والشكوى والمتماهية مع الحياة، مشحونة بالحروف، مملوءة بالكلمات، تغيب الحواشي منها، حيث يستدرك كاتبها بعض مشاعره، حتى بعد أن ينتهي من تسويد سطورها، فيكتب في حاشيتها العليا، وعلى الجانبين، وفي ظهرها، وفي كل مساحة منها، ويشكل بذلك صورة واضحة تفصح عن غزير ما يحمله من القول الذي يريد تسويده في رسالته، وتحكي لمتلقيها خصوصا في نموذج رسائل العشق، الوجد العظيم الذي يعيشه مسودها، وكبر ما فيه من احساس لم تتسع له مساحة الصفحة التي يضطر قهراً للوقوف عند حدودها.

تتساوى هوامشنا اليوم، فهي قياسية، ويختلف بعضها تبعاً لمتطلبات العرض والطباعة والتقنيات الفنية، وهي امور لا صلة لها بالدلالة على مكنونات الكاتب وما يحمله من مشاعر..

في الرسائل الدافئة تتحرك الحروف مستجيبة لنبض كاتبها واحساسه، فعندما يتعالى الشوق، تمتد (الكاف) في (أحبك) لتملأ ربع السطر أو حتى كله، وعندما تتعاظم اللهفة، ويتصاعد صراخ الحاجة للكون قرب الحبيب ولمسه، يتزايد سواد الحروف ويتثخن وتصبح كلمة مميزة من حيث وهج مدلولها، وهكذا الكلمات التي لها اجراس مميزة تتوسد بعض الخطوط المستقيمة او المتعرجة لتفصح عن نوع الشحنة التي تحويها، وهكذا عندما يفزع المعظم لرسم (قلب مخترق بسهم) في اسفل الصفحة او وسطها، وربما تحوي الرسالة قلوباً عدة..

رسائل الامس قد تكون (من كف إلى كف)، وقد تمر بوسائط وكفوف، ولكنها مع كل ذلك (رسائل مكتسية) تعرف الايادي والاماكن التي تنكشف عليها وعندها، بينما رسائل اليوم عارية، لا ندري بعدد العيون التي تكشفها وتنكشف عليها، فهي تحت رحمة السيرفرات وشعوذة المهكرين والعابثين، وحتى مع محاولة الاحتفاظ بها، فإنها عارية من اصلها الذي يتحرك عبر اثير نجهل المسافات والدروب التي تأخذها، بينما ياخذ الحفاظ على رسائل الامس والتعامل معها قصة مختلفة، فمرة تكون أرقاً مستمرة، ومرة صكاً مميزاً، وأخرى منية يدور بها حاملها، وهكذا، يتنوع ويختلف الامر بحسب نوع الرسالة وهوية المرسل وخصوصيتها، والاجمل فيها انها (النسخة الوحيدة)، يظهر اثر الزمان بيناً على وجهها، ويقدم ترجمة لتاريخها وحركتها، وفي كل ذلك احتفاء بدفء خفي تبثه لحظات التعاطي معها، بينما في رسائل اليوم يتعلق الامر بزمن الارسال والاستقبال، والعلامات الدالة عليه.

مظاريف الامس وبقايا الرسائل ذكريات وربما ارشيف، وقد تكون وثائق، تحمل مع جرمها المادي كل لحظاتها وغاياتها التي تعبر عنها، بينما رسائل اليوم حروف وهمية على صحيفة مفترضة، يغيب فيها عنصر الزمن من خلال القدرة على تجديدها كما هي في كل لحظة في سيرورة مستمرة دون انقطاع..

ليس من الانصاف ان تهمل هذه المقاربة المكاسب العظيمة التي اتاحتها التكنلوجيا لرسائل اليوم من حيث مساحتها المفتوحة، وسرعة الارسال، والقدرة على تضمينها ما نحب ونشتهي مما تساعد على عكسه الادوات الفنية، ولكن كل ذلك لا يمنع من الوقوف على اطلال جميلة لاوراقنا الصفراء، فحتى التمزيق والتلف والالغاء له في الرسائل الدافئة طقسه الخاص واحساسه المختلف، فلرعشة اليد محلها ولخفقة القلق وللحظة الغضب او الرضا مكانتها التي تظهر في طبيعة الاتلاف وحجم القصاصات بل ومحل الاخفاء، بينما لا تحتاج رسائل اليوم إلا إلى كبسة زر، قد تأت خطئاً، فيغيب معها كل شيء..

اتمنى ان تكون حروفي داعياً يحفزنا للتمسك بكل شيء له محتوى ومضمون حقيقي.. وأن يدعوكم لتقليب ما بقي من مظاريفكم القديمة…

اترك رد إلغاء الرد