الخداع الأدبي .. الكتابة كسلطة فوق السلطة

هل الخداع اللغوي فنٌ يقوم على تدرّج الأقوال، ليشكّل نسيجًا من الأفعال المغلوطة حدّ تشوّه الفكرة…أم هو فلسفة علمية تتدرّج في سياق العبارات والجُمل ليصبح هو قلب النص من دون أن تحصره، أو تلتقطه…
يهمّنا في هذا المقال أن نبحث عن هوية النص وكاتبه وقارئه، لنستكشف إذا ما كان النص رؤية، أو معنى؟ وإذا ما كانت نيّة النص سالبة، أو موجبة؟ أو الاثنين معًا؟


قد يكون من الضرورة أن نبحث عن العلّة وأدوات المعلول في سياق الحروف والعبارات، لنتمكّن من ملاقاة المعاني على الجانب الآخر من الطريق، بعد أن نكون قد أسهبنا في مجاراة العبارات والجمل والتركيب والصياغات، لنحدّد كيف نستطيع فهم النص بطريقة سليمة… والسؤال يأتي؛ هل المواربة في النص خداع للعين، أو العقل، أو المشاعر… مَن الذي يوارب هنا؛ النص/ العقل، أو النفس/ القلب، أو الكلمة/ المعنى؟


كيف يتدرّج النص ليصبح مشبوهًا، أو مخادعًا، ومَن هو المخادع، الكاتب، أو القارئ، أو الناقد، أو جميعهم؟
لقد تبدّى لي من خلال مخاطبتي الأعيان والأفكار والأذهان أن سوء الفهم أصعب من الكتابة نفسها، حيث يفهم القارئ في أحيان كثيرة ما لا يريده الكاتب، ولا يخطر على باله، قد يكون لعلّة في التعبير، أو لعلّة في الصورة المراد نقلها، أو لعلّة في الإفهام/ القصديّة، أو لعلّة في الفهم عينه/ المعنى…
تأتي هذه المقدمة لتضيء على محطات بالغة في اللغة الخادعة، أو سوء الفهم، أو تزوير النص وجعله على غير ما هو عليه في الأساس…


تعرض الكاتب الأميركي جيروم ديفيد سالنجر صاحب رواية “الحارس في حقل الشوفان” إلى سوء فهم لدى القراء والنقاد والصحافة، مّما جعله يتبرّأ من القرّاء، ويتوارى عن الأنظار لستين عامًا، مصرّحًا أنه يودّ من صميم قلبه لو يتمكّن من إعادة الأموال إليهم، واستعادة نسخ روايته.
جاء في حوار صحافي أُجري معه: “النشر شيء وحشيّ. إن كثيرًا من الأمور لا يمكن استشرافها تقع بعد النشر، إنني أسعد حالًا لو لم أنشر أبدًا؟ إن في عدم النشر سلامًا. لقد فهموا روايتي “الحارس في حقل الشوفان” بشكل خاطئ… لذا سأكتب لنفسي ومتعتي الذاتية فقط”.


فحوى الرواية، أو ما أراد سالنجر قوله، هو “أن الإنسان الناضج هو الذي يسعى إلى تغيير نفسه، أما الإنسان غير الناضج فهو الذي يسعى إلى تغيير العالم..”.. الخدعة وقعت عند الشباب الأميركي الذين رأوا بأن هذا المراهق الطائش ابن السادسة عشرة يسعى إلى تغيير التقاليد البالية التي يرزح المجتمع الاميركي تحتها، وتبعهم الشيوعيون الذين رأوا فيه الثائر المنتقم لهم ضدّ النظام الأميركي الإمبريالي… لقد وقع “الطيشان”؛ الطيش الأميركي الذي يريد تغيير العالم ويحتقر كل مَن حوله، حتى المسنّين، إلى أحكامه الخاطئة على المجتمع ونظامه التعليمي وثقافته وآدابه… والطيش الشيوعي الرافض لرسملة العالم، والمنتقم لأفكاره الاشتراكية… “الطيشان” وقعا في سحر شخصية غير ناضجة عقليًا، ولم يفهموا المغزى الأساسي من الرواية، في الوقت الذي أدان سالنجر فيه هذه الشخصية المراهقة بقوله على لسان أنتوليني: “إن علامة الرجل الذي ينقصه النضج أنه يودُّ أن يموت بنبل من أجل قضية ما، بينما علامة الرجل الناضج أنه يودُّ أن يعيش بتواضع من أجل قضية ما”..


“ما أراد سالنجر قوله، هو “أن الإنسان الناضج هو الذي يسعى إلى تغيير نفسه، أما الإنسان غير الناضج فهو الذي يسعى إلى تغيير العالم..””



“أنتوليني” هو الشخصية الإيجابية في الرواية، وهذه الحكمة هي فكرة سالنجر من الرواية… وهو أستاذ هولدن كولفيلد المراهق المطرود من المدرسة ويريد تغيير العالم…
المراهق يسعى إلى سفك الدماء والحروب…
الحكيم يسعى إلى السلام وتحقيق أهدافه من دون إيذاء نفسه والآخرين…
العقل الناضج يمجّد الحياة، بالتواضع… أما الغطرسة والغرور والكبرياء فإنها علامات مؤكدة لافتقار العقل للنضج… لذا يستحيل على الإنسان أن يكون مسالمًا ومغرورًا في الوقت نفسه…
إن أدب الدين أهم من الدين نفسه… ولذلك فإن أدب الفكرة أهم من محتواها… فحين يَخدع الكاتب القارئ، يحق للقارئ أن يقيم عليه دعوى عدم شراء عمله، أو استرداد ثمنه من البائع، لكن حين يُسيء القارئ فهم الكاتب لنقص في الإفهام، يعني هذا إمّا قصورًا في الفهم لدى القارئ، أو قصورًا في التعبير لدى الكاتب… لكن حين يجيد الكاتب التعبير عن نفسه، وعن الأشياء من حوله، والقصد من فكرته، أو عمله، ويروح القارئ إلى قصور في فهمه فيبدأ بسفك وهتك النص عبر الهوى المفهومي لديه، ويخضع لتأثير مشوّه لفكرة الكاتب بغية إيذاء الآخرين، يصبح من حق الكاتب أن يقيم الدعوى لا على نفسه، بل على القارئ، ويطالب باسترداد حقه بسبب التقصير في فهم القارئ له، وإدراك معانيه: “خذوا أموالكم، وأعيدوا لي كتبي”!!!
هذه الظاهرة لم نلحظها كثيرًا للكتّاب في العالم سوى ما صرّح عنه جيروم دافيد سالنجر، مؤلف رواية “الحارس في حقل الشوفان”، الذي باعت روايته أكثر من 65 مليون نسخة، وأحدثت صاعقة بين جيلي الشباب الليبراليين الأميركيين والشيوعيين الغاضبين إبّان قراءة نص الرواية، كل من جانبه، حيث خضع كل تيّار لفهم خاطئ لمقاصد الكاتب ومغزى الرواية، مما دعا سالنجر مؤلف الرواية لأن يبتعد عن القارئ ويتوقّف عن النشر عقابًا للقارئ بسبب فهمه الخاطئ له، فانتصر لذاته، وقرّر أن يكتب لنفسه فقط…


الصورة التي نشرها البيت الأبيض بعد إطلاق ست رصاصات في اتجاه الرئيس الأميركي رونالد ريغان أملم فندق هيلتون في واشنطن العاصمة (30/ 3/ 1981/ Getty)

حادثان سببهما الفهم الخاطئ: قتل أحد أعضاء “البيتلز”، وإطلاق النار على الرئيس الأميركي رونالد ريغان في عام 1981، وإصابته بطلق ناري في رئته… الطائشان اللذان ارتكبا هذه الأخطاء بررها صواب رواية “الحارس في حقل الشوفان”، فكرة أرادها الكاتب بخلاف ما يريده، فتزحلقت الفكرة على غير رؤيته كليًا…
كأني أقف أمام الشاعر الإنكليزي فرانسيس بيكون حين قال: “كل حقيقة هي خطأ مؤجّل”… لأعلن عكسها هنا “كل خطأ هو حقيقة مؤجّلة”…


“رواية “الحارس في حقل الشوفان” باعت أكثر من 65 مليون نسخة، وأحدثت صاعقة بين جيلي الشباب الليبراليين الأميركيين والشيوعيين الغاضبين إبّان قراءة نص الرواية، كل من جانبه”



إذًا، الكتابة رؤيا ومفهوم وقصد، وتختلف عن وسائل الإعلام التي تحاول خداع المشاهد سمعيًا، أو بصريًا، إمّا باللعب على الكلام، أو وضع الألغام في حقل النص ليسلبه معناه الحقيقي…
إن أخلاقيات العلم أهم من العلم نفسه، وهذا ينطوي على نبل الفكرة، وكيفية تقديمها، فأدب الفكرة أهم من الفكرة عينها، سواء كانت في ذهن الكاتب، أو في فهم القارئ، أو المشاهد…فالأدب ينقصه الاحترام، لا علاقة للحب والكره فيه… لأنهما آفتان لا ندرك مفهومهما إلا بنسبة الوعي المحقق في ذات الفكرة، أو النص… فالكتاب صناعة المعنى، واللغة وسيلة لإيصال المعنى الحقيقي للكاتب، وبالتالي دلالة مفهومية لاحترام عقل القارئ وروحه ليستقيم النقد أيضًا وأيضًا…
في الخلاصة، إن سوء الفهم لهو أشد ضراوة من الفهم نفسه، أي إن الإفهام مسألة بالغة التعقيد، لا علاقة له بوظيفة… فالنخبوي قد يُسيء فهم النص، لأنه مؤدلج، أو عاطفي، أو انحيازي.. أما النص فهو نتاج جهد عقلي مراد منه توسيع دائرة البحث عن المعنى…
وقد حصل في غابر العصور أن قُتل كثيرون، لا بسبب اعتقادهم الفكري، أو رؤيتهم الثقافية، أو الأدبية، وإنما لسوء فهم هذا الاعتقاد… مثال أبو المغيث الحسين بن منصور الحلاّج (828 ـ 922)م، الذي اشتهر بقولة “أنا الحق”، وعده كثيرون مدعيًا الألوهية، فيما فسّره آخرون على أنه حالة من إبادة “الأنا”، أو تذويبها في الخالق، والسماح للّه أن يتكلم من خلاله…



الوضع نفسه ينطلي على “السهروردي المقتول”، الذي قُتل لسوء معتقده، فأفتى علماء حلب بقتله لما ظهر لهم من سوء مذهبه، لا من سوء فهمه… فأصبح اسمه “المقتول على الزندقة”، أو “الفيلسوف الضال”، حتى تبدّى لنا بعد ألف سنة أن السهروردي المقتول يُدعى “شيخ الإشراق”…


“من حق الكاتب الذي تُنشر كتبه ويُساء فهم مقاصده أن يستردّ كتابه من أيدي القراء على أقل تقدير!”


إذًا، الخداع اللغوي قد يكون سلطة فوق السلطة، حين يكون مؤدلجًا ومحصورًا بالمشاعر والغرائز.. النص هو النص، هو سلطة اعتبارية، يقيم في الزمن لمن يجد له عقلًا واصبًا يفهمه ويعيد إنتاجه مرّة تلو أخرى… ومن حق الكاتب الذي تُنشر كتبه ويُساء فهم مقاصده أن يستردّ كتابه من أيدي القراء على أقل تقدير…


فإذا كان الخطأ يحرّر الصواب، فإن العلم بالشيء هو التجريب، والمعرفة بالشيء هي التقريب… حين تنجح التجربة تصبح معرفة… وبفشلها تهدر عمرك وأنت تبحث عن تجربة معرفية جديدة… هذا ما حصل مع ألفرد نوبل، الذي صنع الديناميت… لو فشلت التجربة لما كنا سمعنا بالديناميت، ولا بألفرد نوبل الذي ندم على معرفته بما أنتج… ليتحوّل لاحقًا إلى ديناميت أدبي…
إنها سلطة النص بكل حالاته.. المعرفة بالشيء غير العلم بالأمر.. العلم يجرّب، والمعرفة تقرّب…

/Diffah alaraby/

اترك ردإلغاء الرد