معذَّبات البحر… سيرة الهجرة النسائية إلى أرض أوروبا

قررت الجغرافية الفرنسية، كاميه شمول أن تقدّم سيرة للهجرة من العالمين العربي والأفريقي إلى أرض اللجوء الأوروبية بالانطلاق من رواية النساء لها. صحيح أنها تقول، وفي مطلع كتابها، “معذَّبات البحر”، إن النساء والرجال يشتركون في مكابدة ظروف الهجرة ذاتها، أي الظروف الموضوعية إذا صح الوصف، ولكن، هذا لا يعني أنهم يتقاسمون الموقع ذاته فيها.

تعقد شمول مبحثها على إبانة موقع المهاجرات، مشدّدة على كونه خاصا بهن، وهذا، من دون أن توقف وجودهن على لحظتين اساسيتين منه، أي لحظة كونهن ضحايا، بالإضافة الى لحظة كونهن بطلات. فلا مبالغة في القول إن هاتين اللحظتين قد تمحوران وجودهن، ولكن، هذا، لا يعني أن اختزاله بهما هو أمر مجدٍ. فعليا، تتجنّب شمول هذا الاختزال من أجل اظهار المهاجرات على ما هن عليه في رواياتهن، وقد يكون أهم ما في هذا الاظهار هو كونه يشهر بأنّ المهاجرات يبدعن حيواتهن على الرغم كل ما يتعرضن له في اثناء فرارهن من مكان إلى غيره.

ابداع المهاجرات ذاك له عنوان، أو مقلب أساس، وهو الجسد. فتخصص شمول بعض من مبحثها حول حضور المهاجرات كأجساد في حين خوضهن البحر أو اجتيازهن الحدود البرية. إذ إن أجسادهن هي أول وآخر ما يحملنه معهن في عبورهن، كما أنه أول وآخر ما يحملهن. ولهذا، وقت الهجرة هو وقت لنسج صلة مباشرة مع الاجساد، بما هي تحتاج للاعتناء بها بالطبع، ولكن، الأهم، أنه، وفي هذا السياق، تبدو كمنزل المهاجرات، اللواتي يقمن بها. إقامتهن بأجسادهن يعني أنهن يقدّمن على حمايتها من احتمال تعرضها لشيء ما، بالفضل عن كونهن يعمدن إلى إنعاشها في حال الإطاحة بها. نافلة الاشارة إلى كون أجساد المهاجرات هي عرضة للاعتداءات في حين عبورهن، أكانت جنسية أم سواها، ما يحملهن إلى اكتساب مهارات قتالية من أجل الدفاع عن النفس، أما، وحين لا تكون هذه المهارات مكتسبة، فهن يخترعن وسائل سواها. فلا يمكن سوى التنبه، وبحسب مبحث شمول، إلى العلاقة المتينة، أو بالأحرى الخلاقة، بين المهاجرات واجسادهن، باعتبارها امكنة مبيتهن، التي يدركن أنّ الانتزاع منها هو انتزاع نهائي.

ربما، وفي هذه الجهة بالتحديد، أي جهة علاقة المهاجرات بأجسادهن، من الضروري التوقف على اعتماد شمول لمرجع محوري في قراءتها للهجرة من موضع النساء. هذا المرجع هو الجغرافيا النسوية التي تواظب شمول على تكريسها كجغرافيا تهتم بالجسد كتضريس ومطرح ومكان. ولكن، هذه الجغرافيا ليست منقطعة عن وجهات أخرى لشمول، لا سيما السوسيولوجية والسياسية منها. إذ إنها تحاول قراءة هجرة النساء بطريقة تسنح لها أن تتناولها من نواحٍ عدة.

بعبارة أخرى، مبحث شمول هو مبحث متنوع. بالتأكيد، الجغرافيا عصبه الأساس، إلا أن فكرته عن هذه الجغرافيا هو فكرة رحبة للغاية، ويمكن الاعتقاد أن رحابتها هذه مردها أنّ شمول، ومن بداية مبحثها، تحيل إلى جملة الباحثة الأميركية، دونا هاراواي التي تنصح بالانطلاق من حيوات الناس من أجل دراسة موضوع ما، وليس من صور عنها. الانطلاق على النحو الذي حددته هاراواي، يجعل من كل علم إنساني يرافقه علمٌ واسعٌ، لا يضيق بفعل مقولاته ولا يتجمّد بفعل مسلماته.

لهذا، استطاعت شمول أن تجعل من مبحثها مبحثاً حول هجرة النساء من ألفها إلى يائها، لتطويه على سرد تجارب، وعلى عرض لمواقف، وعلى وصف الاحوال. وهذا قبل أن تحمله خلاصة واضحة، وهي أن الهجرة هجرتان على الاقل. الأولى، هجرة بما هي فرار بحري أو بري. والثانية هجرة رسمية، بما هي تنظيم لأوضاع المهاجرت عبر المؤسسات الدولتية.

بخصوص الهجرة الأولى، النساء يخلقن طرق نجاتهن وعيشهن من بعدها. أما، بخصوص الهجرة الثانية، فتشدّد شمول على كونها جحيمية بالنسبة للنساء، بحيث أنهن يتعرضن للكثير من الاقصاءات فيها. على أنّ اقصاءهن هذا ليس سوى اقصاءٍ لكل مهاجر، ولكنه، وفي وضعهن، هو يبرز حيالهن مباشرةً، لا سيما أنهن يشكلن أكثر من نصف المهاجرين، أي من “معذبي البحر” والأرض

/المدن/

اترك ردإلغاء الرد