هل من سبيل إلى مداواة الجرح العاشورائي النازف على مر العصور؟



نص الكلمة التي ألقاها د.مصطفى الحلوه بدعوةٍ من وزارة الثقافة في 9 آب 2022 ، بمناسبة ذكرى عاشوراء، في المكتبة الوطنية – بيروت (الصنائع). وقد استأثرت هذه الكلمة بإهتمام كونها طرحت توظيف مأساة كربلاء إيجابياً في الحاضر، على مستوى العالمين العربي والإسلامي.

حضر حشدٌ من وزراء ونواب وسفراء وممثلي فاعليات دينية وسياسية وإجتماعية وعسكرية، يتقدمهم معالي وزير الثقافة محمد وسام المرتضى.

(استهلالاً ، أتوجَّهُ بجزيل الشكر إلى معالي وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى ، إذ شرّفني بإلقاءِ كلمةٍ في هذه الذكرى الأليمة ، التي تُجسّدُ أشدَّ المحطات مأساوية “في وجدان المسلمين جميعًا ، وبخاصةٍ لدى الوجدان الشيعي الموجوع والمكلوم . ناهيك عن كونها محطةً عابرةً للطوائف ، تتفلَّتُ من محدوديَّة الأزمنة وتحيُّزات الأمكنة . ويأتيك الخبرُ اليقين من المهاتما غاندي، الذي جاهرَ بالقول : ” تعلَّمتُ من الحُسين كيف أكونُ مظلومًا فأنتصر!”.

وما كان مُلهمُ أكبر ديمقراطية في العالم ليتّخذ من الحسين (ع) قُدوةً لولا أن سيِّد الشهداء ضربَ أروع الأمثلة في مقارعة الطغيان ، والتصدّي للظلم والظالمين ، وفي الانتصار للحق على الباطل ، “إنّ الباطل كان زهوقًا”!

ولا غرو ، فإن الشاعر بولس سلامة ، الذي خصَّص الفصل الأخير من “عيد الغدير” لمأساة كربلاء ، ما كان لينظم هذه الملحمة الشعرية لولا أنّه عاش حالة انتصار للحق : “جلجلَ الحقُّ في المسيحيِّ حتى / عُدَّ من فرطِ حُبِّهِ علويًّا !”. وقد شفع هذا البيت من الشعر بشهادة ، إذْ يقول : “لم يَقُمْ في وجه الظالمين أشجعُ من الحُسين ! ” .

وإذا كانت مقتلةُ كربلاء اتخذت بُعدًا عالميًا ، فلأن أهدافها مغرقةٌ في إنسانيتها ، تُدافع عن إنسانية الإنسان مُطْلقًا ، تذودُ عن حريته وعن عقيدته . وقد كُتبت بحروف من دمٍ طاهر زكيّ ، وما يُكتبُ بالدم يبقى صارخًا ويعصى على الإمِّحاء !

مقتلة كربلاء ، لم تكن حصرًا جريمةً ضد الحسين (ع) ، الذي قُتل ظُلمًا مع قلّة مؤمنةٍ من أنصاره ، في مواجهة جيش جرّار . بل هي جريمةٌ ترقى إلى مصاف الجرائم ضد الإنسانية . ألم يرِدْ في الذكر الحكيم : “من قتل نفسًا بغير نفس أو فسادٍ في الأرض ، فكأنما قتل الناس جميعًا ” (المائدة / 32) ؟!

أيها الأحبّة

لم يخرجْ الحسين من مكّة إلى الكوفة ، إلاّ طلبًا للإصلاح . لم يخرج للقتال وسفكِ الدماء ! لقد خرج َ لأنه رفض تقويض الحكم الإسلامي الحقّ ، ولكي يكون الأمرُ للأمة ، تختار من تراه صالحًا ، عبر المشورة والرضا . من هنا كان رفضُهُ البيعة ليزيد بن معاوية . علمًا أن معاوية كان أوّل من انحرف بالحكم الإسلامي عن جادّة الشورى ، مُحوّلاً إيّاه إلى مُلْكٍ عضوض ، قائمٍ على التوريث ، يتّسِمُ بالعسف ِ والطغيان !

هذا النمط من الحكم ، في عُرف الحُسين (ع) ، هو بمنزلة اغتصاب للسُلطة . من هنا كانت ثورتُهُ ثورة الشورى ، الهادفة إلى المحافظة على الخطّ النبويّ المحمّديّ .

لم يخرج الحسين (ع) طلبًا للمُلك والرئاسة لنفسِهِ . بل خرج ليقف في وجه ما دُعي “فقه المتغلِّب” ، الذي يرتكزُ على تحويل صلاحيات اختيار الحاكم، من يد الأمة إلى يدِ بعض أفرادها . هذا الفقه يُضادُ روح الشريعة ومقاصد الدين . وبتعبير آخر ، فإن القوة ، عبر هذه الصيغة – باتت تحتكرُ الدولة ، فيما المطلوب أن تحتكرَ الدولةُ القوة !

لقد أعلنها الحسين (ع) صريحةً ، وهو يُحدِّدُ الهدف من خروجه :” إنّي لم أخرُجُ أشِرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا ، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدِّي . أريدُ أن آمُرَ بالمعروف وأنهى عن المنكر . فمن قبِلّني ، بقبول الحق ، فالله أولى بالحق ، ومن ردَّ عليَّ هذا ، أصبرُ حتى يقتضي الله بيني وبين القوم بالحق ، وهو خيرُ الحاكمين”.

أجل ! تحرّك الحسينُ السبط (ع) لإحياء الدين ، لإحياء إرادة الأمة ، التي أجهز عليها الطُغاة ، بعد أن استباحوا كرامتها ، وانتهكوا حُرمةً كتاب الله، وحُرمة سُنَّة النبي (ص) ، وأحيوا البدع . فكانت ملحمة كربلاء ، واستُشهد أصحابُ الحسين ، وكل واحدٍ منهم يُسجِّل بطولةً خارقةً قبل مصرعه ! .. واستُشهد سليلُ بيت النبوّة وريحانةُ رسولِ الله وسيد شباب أهل الجنّة ، مسطِّرًا، بنِضاله ، أعظمَ ملحمة في تاريخ البشرية ، وغدا “أيقونةً” كونيّةً نابضةً بالحياة ، أيقونة تفعلْ فعلّها في تحريك التاريخ الإسلامي وتوقيع خُطاه ، منذ أربعة عشر قرنًا ، وستبقى مُحرّكتَهُ إلى يوم يبعثون !

أجل! ويستمرُّ أبناء الحسين في حضورهم الآسر، كابرًا عن كابر. فها هو سيِّدُ الساجدين الإمام زين العابدين بن الحسين، يأتي الكعبة المشرَّفة، في أحدِ مواسم الحج، وإذْ يريد لمس الحجر الأسود، يوسعُ له الحجيج المحتشد، وكان حاضرًا الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك. وإذْ يسأل أحدٌ من أهل الشام هشامًا: من هذا الذي هابه الناس، فيدّعي عدم معرفته به . ينبري ساعتها الفرزدق قائلاً: أنا أعرفه، ويرتجل قصيدته العصماء في مديح زين العابدين، لتسيرَ، كما النارُ في الهشيم، يلتفت هشام إلى الفرزدق قائلاً: ألا قلتَ فينا مثلها، فيردّ هذا الأخير: هاتِ جدًّا كجدِّه، وأبًا كأبيه، وأمًّا كأمِّه، حتى أقول فيكم مثلها، فغضب هشام، وأمر بحبسِهِ.

أيها الأحبّة،

ونقلبُ هذه الصفحة الدامية، من تاريخنا الإسلامي والعربي، التي تبقى لطخةَ عارٍ، على جبين الطُغاة، الذين سفكوا دم الحسين الطاهر، وأورثونا- نحن المسلمين جميعًا- أعباء جريمة لا تُغتفر .. نقلبُ الصفحة ولا نطويها، لنواجه السؤال الآتي: هل من سبيل إلى مداواةِ هذا الجرح الإسلامي، الفاغر فاهُ، والنازفِ أبدًا ، على مرِّ العصور وكرِّ الدهور؟!

كيف للمسلمين، سُنَّةً وشيعةً، أن يُفيدوا، دروسًا وعِبرًا، من أمثولةِ المأساة الحسينية، ويوظفوها في سبيل استقامة أوضاع العالمين العربي والإسلامي، وَقْتَ تتكالبُ عليهما قوى الشرِّ والبغي والعدوان، من كل فجٍّ عميق؟!

نحنُ- معاذ الله- لا ندعو إلى إخراج الحدث الكربلائي من تاريخيتِهِ، ولا إلى تبخيس أبعاده السيكولوجية، كجرحٍ يعتملُ، بل دائم الاعتمال في الاجتماع الشيعي. فعاشوراء ليست حدثًا عاديًّا بسيطًا، جرت وقائعه في الماضي المنقضي، وطويت صفحتُهُ. بل غدت مأساةً، يعيشُها المسلمون الشيعة ويستعيشونها، في العاشر من محرّم من كل عام، بعد أن دخلت في معتقداتهم، وترسَّخت هُويَّةً حسينيَّةً، في لاوعيهم الجمعي. وإذْ يستعيدون هذه المأساة، بكل فصولها الدامية، فلكي تبقى نابضة في وجدانهم!

إنَّ مصرعَ الحسين (ع) ولَّدَ، لدى شيعة العالم، مظلوميةً، يصعُبُ الفكاكُ منها، حتى عندما يكونون في موقع قوة!

إن هذه المظلومية ترتكز، بحسب الفيلسوف الكندي “ايكهارت تول”، على “كتلة ألم”، تتجدّدُ وتصحو، داخل الوجدان الشيعي!

أيّها الأحبَّة،

آخذين بالاعتبار ما استعرضنا، حول أبعاد المأساة الكربلائية، فإن ما يهمّنا، نهاية المطاف، كمسلمين وعرب، أن نتلمَّس طريقنا نحو التقدّم، كي نحجزَ مكانًا لنا بين الأمم، لا أن نبقى رهناء السؤال، الذي طرحه روّاد النهضة لدينا، واستعصت الإجابة عنه:” لماذا تقدّم الغربُ وتأخّرَ المسلمون؟”

إن الشعوب، التي لا تتّعظُ من تجارب سائر الشعوب والأمم، لا مكان لها تحت الشمس!

وإذْ نستحضرُ الحروبَ الدينية، التي شهدتها أوروبا، في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وفي بداية الثامن عشر، فلكي نستقي من نتائجها المدمّرة العبر، ونحاذر الإنزلاق إلى ما انزلق إليه الأوروبيون، في احترابات دامية بين البروتستانت والكاثوليك- وجميعهم مسيحيون- بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عامًا (1618- 1648)، التي دمّرت ألمانيا، وقضت على ثلث سكّانها!

أيّها الأحبّة،

إن القرآن الكريم ما فتئ يدعو إلى كلمة سواء بين المسلمين وأهل الكتاب. وقد كان لهذه الدعوة، بعد مخاض تاريخي عسير، أن تُؤتيَ أُكُلَهَا، في عصرنا الراهن، فكانت “وثيقة الأخوّة الإنسانية”، التي تمّ توقيعُها ، في دولة الإمارات العربية (4 شباط 2019) بين رأس الكنيسة الكاثوليكية قداسة البابا فرنسيس وبين إمام الجامع الأزهر الشيخ أحمد الطيِّب.

بإزاء هذه المبادرة التاريخية بين أكبر مرجعيتين دينيتين في العالم، أفلا نرى أن من الأهمية بمكان تفعيل الحوار بين المسلمين أنفسهم، بين مرجعياتهم الدينية في الأزهر الشريف والنجف الأشرف وقُم المقدّسة، وليتمّ الخلوص إلى “وثيقة الأخوّة الإسلامية الإسلامية” ، وبما يؤول إلى قطع دابر الفتن، التي يعمل على إشعالها المصطادون في الماء العكر، وما أكثرهم بين ظهرانينا. ناهيك عن دور العدو الصهيوني والقوى الاستعمارية، التي تتربَّص بنا الدوائر، وتعمل على تبديد شمل المسلمين والعرب، وتفريق جمعهم، وتمزيق دولهم شرَّ ممزّق، ولا تعوزنا الشواهد، فهي باديةٌ للعيان، تُعدُّ وتُحصى!

لو قُيِّض للإمام الحسين (ع) أن يُبعث بيننا اليوم- لا شكَّ هو حيٌّ، فالذين يُقتلون في سبيل الله أحياءٌ عند ربهم يُرزقون- فماذا كان ليقول، وهو يرى العرب والمسلمين على ما هم عليه من فُرقة وحالة تقهقر وتردٍّ؟

لقد كان له أن يتوجَّهَ إلى المسلم السُنّي وإلى أخيه في الدين المسلم الشيعي قائلاً، بالفم الملآن:

كلاكما ينتسبُ إلى الإسلام، وكلاكما يشهدُ شهادة الإسلام!
كلاكما يُؤمن بالله الواحد الأحد!
كلاكما يُؤمنُ بالقرآن الكريم، الذي ” لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلٌ من حميد حكيم”!
كلاكما يتوجَّهُ إلى قِبلة واحدةٍ، في صلواته الخمس!
كلاكما مُتفقٌ على الإيمان بالله وملائكتِهِ ورُسُلِهِ واليوم الآخر، وعلى أركان الإسلام الخمسة. فعلامَ الخُلفُ بينكما علامَ/ وإلامَ الخُلفُ بينكما إلامَ؟!
.. ومن جهتنا، نُضيف أن الخلافَ في القضايا الاجتهادية، لا يصحُّ أن يكون مجالاً لتفتيت وحدة الأمة. كما أن التباين في قراءة بعض أحداث التاريخ، لا يُفسِدُ للودّ الإسلامي قضيّة. وإذا كان مُتعذّرًا إنهاءُ الخلاف، تحت أيّ عنوان أتى، فينبغي، أقلَّهُ، تنظيم هذا الخلاف، واضعين نُصبَ أعيننا منطوق الآية الكريمة:” ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهبَ ريحُكُم”!

أيها الأحبة،

في عودٍ على بدء، ووجعُنا بهذه الذكرى كبيرٌ والجرحُ عميق، ليس لنا إلاَّ أن نختم بأبيات، من ملحمة ” عيد الغدير”، يتوجّه بها بولس سلامة إلى الحسين (ع)، وهو مضرَّجٌ بدمه، في أرض كربلاء:

يا ابنَ بنتِ الرسولِ حسبُك فخرًا
أنك السبطُ شرَّفَ الشهداءَ
دمُكَ السمحُ يا حُسينُ ضياءٌ
في الدياجير، يُلهمُ الشعراءَ
أيُّ فضلٍ لشاعرٍ منك يعتامُ
اللآلي، يصوغ منها رثاءَ
شاعرٌ مُقعدٌ جريحٌ مهيضٌ
كلُّ أيامِهِ غدت كربلاءَ

وإذْ يُضيف سلامة قائلاً:

لا تقُلْ شيعةٌ هُواةُ عليٍّ

إنَّ في كلِّ مُنصفٍ شيعيَّا

من وحي هذا البيت، ثمة مُعادلةٌ ذهبيّةٌ، ندعو إليها، بل يجب أن نعيشها كمسلمين، فعلَ إيمانٍ حقيقيًّا: أنا سُنِّيٌ بقدر ما تستبطنُ سُنيّتي من ثورةٍ حُسينيَّة، وأنت شيعيٌّ بقدر ما تتّسعُ شيعيتُكَ لسُنيّتي السمحاء!.. نحن الاثنين نظيرانِ في الخَلْقِ وأخَوَانِ في الدين!

اترك ردإلغاء الرد