هل تموت رسالة النّقد في زمن “التثاقف” العربي؟
لم يشهد النقد الثقافي، لا سيما الأدبي، تقهقراً وتراجعاً كما حاله اليوم. تراجع تعود بداياته الى عقود خلت، ومنذ بداية الذوبان بالنقد الغربي تحديداً، وزاد من تفاقم الأمور تفشي الظواهر الطفيلية المتثافقة التي كرست نفسها في موقع النقاد للنتاجات الثقافية والتربوية والفنية المتنوعة، فسلبت من المشهد الثقافي الحقيقي رونقه، وعكّرت صفوه وجماليته وجودته.
تأتي هذه المقالة لتضيء بداية على تطور النقد الغربي عبر قراءة موجزة لكتاب “النقد الأدبي”، قبل أن تستعرض واقع النقد العربي المأزوم وواقعه المرير المتهالك.
في كتابهما المشترك “النقد الأدبي”، يصور الباحثان الفرنسيان “جان كلود فيلو وجان كلود كارلوني التباينات الشاسعة بين التحيز والموضوعية، بين العلمية والانطباعية، وبين التصَور والإنجاز، ويحاولان أن يقابلا النظرية بالتطبيق، ليعلنا أخيراً وقوفهما إلى جانب النقد الواقف على ضفاف الفلسفة”.
يطرحان مجموعة تساؤلات حول منهج النقد الأدبي ثم يبحران على مسافة زمنية تتجاوز ثلاثة قرون ونيّف في مؤلفات لنقاد مرموقين، علّهما يشبعان رغبة الإجابة عن هذه التساؤلات، في محاولة علمية للكشف عن مواقف هؤلاء النقاد ومناهجهم الخاصة، وسبر أغوار مؤلفاتهم ومعرفة ما خفي من تناقضات، وما تناقض من خفايا.
ينطلق الباحثان في رحلتهما من القرن السادس عشر، فيجدان أنه لم يأت بشيء جدير في النقد، ثم ينتقلان إلى القرن السابع عشر، فيكتشفان أن الحياة الأدبية انتظمت، وشكل الكاتب بدأ بالتبلور، إلاّ أن النقد سيطرت عليه مشكلة القواعد التي نتجت منها مشاحنات، فانتشر النقد الذي يهتم بالكاتب أكثر من النص، وأصبحت الغاية من النقد دراسة الأديب بدلاً من دراسة الأدب، وكأنّ العمل الأدبي هو انعكاس لذات الكاتب عبر مرآة نصوصه وكتاباته.
وهذا ما دفع النقاد إلى إتخام دراساتهم بسيرة المؤلف الشخصية، فيغيب النص ويموت تحت ثقلها، حتى وصل الأمر إلى أن يتخذ النقد شكل الهجاء، واختلطت الإهانات الشخصية بالشواهد العلمية، ويعدّ Boileau بوالو أبرز هذه الحالات الهجائية.
بعد ذلك، يعبر المؤلفان إلى القرن الثامن عشر، فيشاهدان تطور النقد مع بروز مفهومي النسبية relativite والشعور sentiment مع دوبوس، بحيث تراجعت حالة نقد الأديب وتقصي عيوبه، لمصلحة منهج جمالي لنقد ومضات الجمال في النص ودراسته بجدية، بدلاً من التعبير “بسذاجة” عما يُعتقد في مؤلف أو كتاب. بعدها يذهب المؤلفان في رحلتهما الاستقصائية للكشف عن الخيوط الناظمة للنقد الحقيقي. وهنا يبيّن المؤلفان ظهور مجمل التيارات والتوجهات النقدية المختلفة حتى مطلع القرن العشرين، من البحث نقد مطلق (كلاسيكي) المحتكم إلى المعيار مع نيزار Nisard كمبشر بالحقيقة، ثم البحث عن موضوعية علمية بدءاً من فيلمان وتين وفرديناند برونتير الذي سعى إلى نقد قائم على أسس علمية بعيدة من النقد الانطباعي والذوق الفردي، وهانكان، صاحب مفهوم النقد العلمي الذي يقترح تحليلين للأثر: اجتماعي وسيكولوجي،
وبورجيه الذي استخدم المنهج العلمي في التحليل النفسي الاجتماعي. أما التوجهات الثالثة فإنها تدعو إلى ممارسة الانطباعية، والمقصود بالانطباع هنا “اللقاء الآني والساذج بين النص والقارئ، والتبادل الذي ينتج من ذلك في نفس القارئ”.
أما التيارات والتوجهات الرابعة، فإنها تعير سعة العلم اهتماماً، كما هي الحال مع غوستاف لانسون، إضافة إلى اتجاهات خامسة ترى أن الأثر هو حصيلة أبعاد سيكولوجية، ويحتوي على مضمونين ظاهر ومستتر، فينهج على ذلك شارل بودوان الذي يرى أن “فعل الكتابة” “هو سلوك لحالة إبداعية خاصة يمكن تحليلها، وتفكيكها كغيرها، ما يسمح بجمع عناصر قد تبدو متناثرة، وإيجاد المركبات المتنوعة التي تعطي الموضوع الأدبي وحدته كما يرى غاستون باشلار Gaston Bachelard))، واتجاهات سادسة مبنية على مبادئ ماركسية ترى في الفن والأدب انعكاساً للظروف الاقتصادية والبنية الطبقية، وسابعة تحاول الموالفة بين النقد والإبداع مع ألبير تيبوديه، وبول فاليري الذى سعى إلى نظرية عامة للفكر ومعرفة ماهيته، ودي بوس وأدمون جالو وجاك ريفيير الذين حققوا ذروة النقد الانعكاسي والتوحيدي، ونقد التركيب لدى جيرودو وتيري مولنيه”.
ينهي الباحثان رحلتهما “في تقصي وجهة النظر الفلسفية، التي أدركها سارتر وبيغان وبوليه وبلانشو وجان بيار ريشار، الذين ينظرون إلى فلسفة واعية للأدب ويدركون أن الآثار تفرض تجربة ميتافيزيقية أو اختباراً وجودياً. تم إدراك هذه الوجهة الفلسفية لإدراك الإنسان في شموله، وليحدد مكانه بالنسبة إلى وضعه البشري”. يشرح المؤلفان أن وجهة النظر الفلسفية هذه جعلت النص الأدبي يعالج من أبعاد لا حيز ولا مجال فيها للأشكال المطلقة أو الادعاءات الموضوعية واللاواعية، ونشهد موت الكاتب مع نهاية النص كما يقول رولان بارت. فالنقد يكون فلسفياً عندما يبحث عن دلالات موقف شامل، لا عن اعترافات كبت.
النّقد العربي
بعد الإضاءة على كل هذا النتاج والسياق التاريخي لتطور الأدب الغربي، وبعدما تولدت عن وجهة نظره الفلسفية، بعد منتصف القرن العشرين، مجموعة كبرى من التيارات والتوجهات النقدية التي نخبرها في أيامنا هذه من بنيوية، وسيميئيات، ولسانيات، وتوليدية، وشعرية وتفككية، وحوار وتناص وسردانية. يأتي السؤال الكبير: أين النقد العربي من كل هذا النتاج؟ وماذا كان يفعل النقاد العرب في زمن الثورات النقدية الغربية المتلاحقة؟
إن المتابع للحركة الأدبية العربية يدرك بسهولة الأزمة التي يمر بها النقد الأدبي، والتي تتجلى صورتها الأولى في الاستهلاك الأعمى للنتاج النقدي الغربي، والانبهار الكامل أمام حضوره والاستجرار الفردي له، وإسقاطه على واقع أدبي مغاير للظروف والخلفيات الثقافية والمرجعيات الفلسفية الفكرية التي نشأت فيها النظريات والمدارس الغربية في النقد، فأضحى النقد العربي أسيراً لهذه المدارس التى تحكمت بكل دينامية حركته ومساراته، دون مراعاة لخصوصية النصوص الأدبية العربية وخلفياتها الثقافية والتاريخية، إذ إن تبني ناقد ما لنظرية معينة في النقد، سرعان ما يتم استبدالها بنظرية ثانية وثالثة دون قدرة على الاستقرار في التبني لنظرية ثابتة.
وهذا يعكس ضعف الفهم العميق للنظريات المستوردة وجذورها الفلسفية قبل تبنّيها، حيث يقول إدوار سعيد في هذا الصدد “إن العالم العربي منهمك بالنسخ المباشر، ما إن يقرأ الواحد كتاباً من تأليف فوكو وكرامشي، حتى يرغب بالتحول إلى كرامشي أو فوكوي”، هذا فضلاً عن طفرة المصطلحات الدالة على عمليات النقد والتفاوت الكبير في تعريبها، والاختلاف بين مفاهيمها ودلالاتها بين النقاد، ففقدت المعرفة المستوردة نجاعتها وقدرتها الإجرائية، الأمر الذي أدى إلى تبديد الجهود المبذولة وعرقلتها لوضع أسس نقدية عربية مرتكزة على قواعد علمية، وبالتالي فقد النقد العربي المعاصر هويته بارتمائه الكلي في أحضان النقد الغربي.
وهذا ما وضعه أمام مشكلتين، مشكلة الاستجرار الكلي من الغرب، ومشكلة في عدم القدرة على الابتكار والإبداع. لذا يرى سيد بحراوي “أن النقد العربي يمر بحالة أزمة، تبدأ من الغياب التام لدور النقد في الحياة الثقافية، وغياب المنهج الواضح، الشيء الذي يترتب عليه عدم تبلور رؤية شاملة للنقد العربي”.
ومن المنزلقات التي يواجهها النقد العربي في يومنا هذا، مشكلات الانحيازية والشخصنة والتعدي على التخصصية وغياب الموضوعية، وتسليط الضوء على عيوب النص أكثر من جمالياته، والاهتمام بالكاتب أكثر من نصه، وطغيان علاقات المصلحة والمداهنة بين مجموعة من الكتّاب الذين يتحولون إلى نقاد يمدحون ويسوّقون لبعضهم بعضاً، واعتماد التجزيئية بدلاً من الكلية في النقد عند كثر، حيث يتم الاهتمام بالمضمون على حساب الشكل أو العكس، حتى بات النقاد يصنّفون بين فئتين: متخصصو المضمون ومتخصصو الشكل، وصعوبة اعتماد لغة نقدية واحدة، بل تمييز لغات عدة تعكس تنوع الغزو الثقافي الغربي لكياننا الأدبي، وانبهارنا به دون وعي بالأنا العربية المعاصرة (الغرب). إذاً يصعب مثلاً الحديث عن لغة بنيوية واحدة في ظل تنوع لغات البنيوية (أدونيس، يمنى العيد، الياس خوري، خالدة سعيد، طاهر لبيب… وغيرهم)، فتعطلت بذلك العملية الإبداعية ووُئدت المواهب في عقول أصحابها.
غياب الضّمير النّقدي
ومن اللوثات القاتلة التي أصابت الواقع النقدي، غياب الضمير النقدي عند طائفة من النقاد التي انحرفت عن جادة الصواب في مقاربتها النقدية الصادرة عن مواقف شخصية، بدلاً من معين الذوق الذاتي تجاه النص وصاحبه، فغيّبوا عمداً وجوه الحق والعدل، وهما المعياران الأساس لاعتدال ميزان النقد وسمو رسالته، وغاب عنهم أن الناقد الحقيقي مهمته تحفيز المواهب والقدرات لا إطفاء نور إبداعها عبر أساليب موتورة، انتهازية وهدامة، إذ ما نراه كثيراً هو صدور عبارات نافرة لا علاقة لها بالنقد الراقي، والنزيه، وذلك لتوجيه رسائل ذميمة وحاقدة للنيل من كرامة الكاتب والتقليل من قدراته وإبداعه، وما أبأسها من رسالة!
لذا ثمة أسئلة كثيرة تطرح! لماذا هذه الانتكاسة على مستوى النقد العربي؟ ولماذا لا يوجد مدرسة عربية للتخصص النقدي؟ لماذا لم ينجح أي ناقد عربي في التميّز والانضمام إلى نادي النقاد العالميين، ويصبح مرجعاً عالمياً في النقد وأساساً في آلياته، خصوصاً مع بروز جيل من رواد النقد العربي في المنتصف الأول من القرن الماضي، وصدور كتابات نقدية لبعضهم على سبيل الذكر لا الحصر: طه حسين (كتاب في الشعر الجاهلي 1926)، وميخائيل نعيمة (كتاب الغربال 1923)، وعباس محمود العقاد (كتاب الديوان 1921 مع عبد القادر المازني)، وزكي مبارك وأمين الخولي….. وغيرهم؟
هل مردّ الانتكاسات والإخفاقات النقدية يعود إلى الكتابة باللغة العربية، ما جعل النقد أسير المكان ورهين اللغة وما تحمله من موروثات سياسية ودينية؟ هل لعبت الأزمات السياسية والحروب العسكرية والعداء العربي مع الغرب في مراحل تاريخية عديدة دوراً مفصلياً في ثني الثقافة والعلوم العربية عن مواكبة التطورات والنظريات والمدارس الحديثة في مختلف المجالات، لا سيما النقدية منها؟ وما مدى تأثير الموروثات الاجتماعية والأيديولوجيا الإسمنتية التي أحاطت منظومتنا الفكرية على تقبل النقد البناء، وعلى توفير مساحة حرية واسعة للنقد؟ وهل تأثير نرجسية الإنسان العربي على تحمل النقد أحبطت الدافعية للنهوض بواقع أفضل للنقد الأدبي؟ وأين دور المناهج المدرسية العربية في تكوين ملمح التلميذ الناقد والمفكر؟ وما هي السمات التي يجب أن يحملها الناقد؟ وهل يحق لأي كان أن يصبح ناقداً في غير تخصصه؟ وأين دور الصحافة الأدبية التي تهتم بالنقد؟ هل يمكن تأسيس منهج نقدي عربي ينطلق من الخصوصيات الثقافية والفلسفية العربية؟ وهل من سبل حقيقية إلى مدرسة نقدية رائدة في ظل هذه الانتكاسات والخيبات الأدبية التي زادت من حدّتها الطفيليات المتثاقفة والانتهازية؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها يحتاج إلى كتابات ومؤتمرات عديدة، وقد نفشل في الإجابة عن بعضها، وحتماً سيتولد في ضوء معالجتها ومناقشتها عشرات الأسئلة والإشكاليات، ولكن من الضروري في مكان ما، ومن الواقع الذي نعايشه على مستوى الرداءة النقدية في العلوم الإنسانية والأدب تحديداً، وتفشي ظاهرة “التثاقف” المنتحل وأدوات النقد الملوثة، تأسيس منهج نقدي عربي يراعي بشدة خصوصية النصوص العربية وخلفياتها الثقافية والتاريخية، ومدرسة نقدية عربية قادرة على احتضان الطاقات الإبداعية ومنفتحة على الحضارات الغربية وفلسفتها للاستفادة ما أمكن منها، وليس الذوبان فيها والارتهان لها
/النهار/