“أصوات بيروت” مدينة يعتريها الصراخ

/زينب ترحيني- وول ستريت جورنال/

“أردت التأكّد أننا لسنا مجرّد أشباح”. احتاجت رنا عيد إلى سنوات من المراكمة لفهم سبب لجوء تلك الطفلة التي كانتها إلى الراديو كاسيت، لتسجيل الأصوات من حولها. بدأت تجاربها وهي في السادسة من عمرها، بعدما اكتشفت إمكانية تسجيل الأغاني على شريط كاسيت، والاستماع إليها في وقت لاحق. تباعاً وبشكل تصاعديّ اكتشفت صوتها فسجّلته، ثم، ولكثرة الأصوات من حولها، اكتشفت المدينة وبدأت بتسجيل ما أفرزته من قصف، وخوف، وأخبار عاجلة ومجازر.

راكمت شرائط الكاسيت إلى أن قُصف البيت، ففقدت بعضها، ثمّ، وبحكم التنقّل المستمرّ من بيت إلى آخر، اضطرّت إلى التخلّي عن قسم منها وانتقاء من سيرافقها في ترحالها. كبرت رنا عيد، ومعها ذات الشغف، فصارت مهندسة صوت ومخرجة أفلام. وُلدت عام 1976، أي في بدايات الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990)، وهذا تفصيل كافٍ لفهم ما حاولت الطفلة تجاوزه عبر شرائطها: “كنتُ أسجّل الأصوات في الملجأ، لقد قضيتُ وقتاً طويلاً هناك”.

تستعيد عيد أرشيفها الصوتي، في بودكاست وثائقي عنوانه “أصوات بيروت” (39 دقيقة و21 ثانية)، من إنتاج إي آر تي راديو (متوفر فقط باللغة الفرنسية). عام 2014، لمعت فكرة الوثائقي في رأس الصحافية الفرنسية ماريون فلايوفيك، بعد أن التقت بمهندسة الصوت رنا عيد في بيروت. كان مجرّد لقاء سعت إليه الصحافية لفهم صعوبة تسجيل أصواتٍ خارجية في المدينة بعد محاولاتها المتكرّرة. أنبت اللقاء فكرة بودكاست وثائقي، لكن تأخر إنجازه وإصداره سنوات.

ببديهيّة وبنبرة فاهمة للأصوات الخارجة من جوف المدينة، تُعيد عيد إجابتها عن السؤال الأول: “بيروت مدينة فوضويّة مليئة بالزومبي. مدينة تتنفّس وتختنق في آن. صاخبة لا يُمكن تمييز الأصوات فيها، إلّا لو كان صوتاً عالياً، إلّا لو كان صراخاً”.

تُقلّب عيد في أرشيفها المحفوظ على حاسوبها، باحثةً عمّا تبقّى من أيّام الحرب الأهلية. تتسلّل وتتداخل الأصوات في الوثائقي، بخفة وتنظيم كفيلين بجعل الاستماع لطيفاً ومليئاً بالنوستالجيا إلى مدن وتفاصيل مفقودة. أصوات أصابعها وهي تُكبّس على “فأرة” حاسوبها، سردها المُرافق، تمتمات الصحافية شبه الخفيّة، أصوات قذائف وأذان وزمامير سيارات وباعة متجوّلين في الخلفيّة… سردٌ يتنقّل بين منازل وأحياء بيروت في أكثر محطاتها حساسية، بكل تناقضاتها وتحولاتها، التي دوماً ما أوصلت سكانها إلى مكان واحد معروف ومخيف: الحرب.

“سأبدأ بالصوت الذي بقي لديّ من أيام الحرب (نسمع صوت طلقات نارية وقذائف). آه لا هذا التسجيل حديث، هذا في عام 2008”. هكذا هي بيروت. مدينة عالقة في التكرار وفي حلقات من العنف. هذا هو الانطباع الذي سيُرافق المستمع على طول الوثائقي. مزيجٌ من سرد شخصي يتحوّل في كل دقيقة ليصير جماعيّاً. كأن عيد في سردها، وفي استعراض أرشيفها، تحكي قصص سكان المدينة وقصص جيل حرب، بكل خيباته وضجيجه وصدماته النفسية. عندما تذكر في بداية الوثائقي أنها تعيش في بيروت، تُرافق جملتها ضحكة ساخرة، ممتدّة وعميقة.

ضحكة ليست غريبة على كثير من اللبنانيين المقيمين في البلد. يمتدّ التناقض إلى أرشيفها من الحرب الأهلية، عندما تصدح موسيقى دبكة لبنانية من دون مناسبة. موسيقى تتناقض مع السياق، كيف يُمكن أن يخرج فرح مُشابه من وسط الدمار وأكوام الجثث؟ “هذا النوع من الموسيقى كان يظهر في فترة الحرب بين الأخبار العاجلة، دبكة ثمّ حرب ثم دبكة ثم حرب”.

لا يتوقّف الوثائقي عند حدود الحرب الأهلية. تتداخل الأشياء والأحداث، ولكنها تتناغم مع خطّ زمنيّ تصاعديّ. تتنقّل رنا في حديثها بين أصوات المدينة الأكثر حدّة ومفارقةً: بداية الحرب الأهلية، مجزرة صبرا وشاتيلا، انتهاء الحرب، إعادة الإعمار، اغتيال رفيق الحريري، حرب تموز 2006، أزمة النفايات 2015، وصولاً إلى أكتوبر/ تشرين الأول 2019، أي بداية انكشاف الانهيار الاقتصادي في لبنان، ثمّ انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/ آب من عام 2020.

تحكي عن الفراغ الذي أصاب أبناء جيلها مع نهاية الحرب. تعبر التحوّلات في سياق السرد بخفّة وانسيابية، خاصة أنها تترافق مع تسجيلات صوتية متنوّعة حفظتها في محاولة منها للأرشفة وحفظ ذاكرة المدينة. تحكي عن الاغتراب في العاصمة من دون أي استعانة بالكلمة. تأتي على ذكر مشكلتها الصحية التي ظهرت عام 1991، فيصير طنين أذنها دلالةً على العطب الجماعي الذي أصاب جيلاً كاملاً.

تمرّ على الأحداث من دون حاجة إلى كثير من الكلام. على سبيل المثال، نسمع تسجيلاً صوتياً من مطار بيروت: “أهلاً وسهلاً بكم في مطار بيروت الدولي”. توقف التسجيل وتُعلّق “عندما تسمعين هذا تعرفين مباشرةً أن التسجيل كان قبل عام 2005”. تسجيل واحد كفيلٌ بالتدليل على لحظة فارقة في تاريخ البلد: اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري في فبراير/ شباط 2005. الانتقال من مطار بيروت الدولي إلى مطار رفيق الحريري ليس أمراً عابراً، بل هو ترسيخ للتحوّل الفظيع الذي أصاب البلد حينها.

يصل السرد إلى بيروت اليوم. هذا العيش على أنغام الأصوات المحيطة، كان لا بُدّ أن يهزّه انفجار بيروت عام 2020. يصير نجل عيد، البالغ أحد عشر عاماً، دلالةً على توريث الصدمات من جيل إلى آخر. توريثٌ للاعتياد، والفراغ، والخوف، والتأقلم.

في ختام الوثائقي، وفي لحظة انسجام بين الموضوع والإيقاع، تتحرّر غصّة عيد، فتُسمع. تنعى بيروت عبر الحديث عن الانهيار، وكيف اقتلع الانفجار أرصفة المدينة وقلوب الناس. غصّت عيد لأن بيروت مدمّرة، لأنها كانت على هذا الحال طوال سنوات، ولكن “لم أسمع بما يكفي”. خبيرة الصوت فهمت اليوم، أنهم “قتلوا مدينتي، فهمت، فهمت كتير منيح”.

تقول عيد، خلال شرحها عن أهمية الصوت ولجوئها إليه، إن رؤية ما يدور من حولنا إراديّ، إذ يُمكننا غضّ النظر. أمّا الاستماع للأصوات المحيطة بنا فأمرٌ لا مهرب منه. ربما فاتها أنها في وثائقي “أصوات بيروت”، وعبر أرشيفها السمعيّ، ونوعيّة سردها، جعلت البصري لاإراديّاً أيضاً. الاستماع إلى هذا البودكاست تجربة سمعية وبصرية ممتعة وحزينة في آن.

اترك ردإلغاء الرد