إسرائيل تضرب دمشق وحلب.. والأسد يرد في أدلب
/سامر زريق – الرائد نيوز/
“في 7 مايو/ أيار عاد كسينجر الى دمشق، والتقى الرئيس حافظ الأسد ليعرض عليه مشروع الفصل بين القوات السورية والإسرائيلية معدلاً، بعد أن رفضه الأخير أول مرة، وكسينجر نفسه كان غير مقتنع به. قال كسينجر للأسد: إني أعرف سلفاً أنكم سترفضون هذا المشروع، ورغم ذلك فإن عليّ أن أطرحه عليكم…. وبعد مناقشة استمرت حوالي ساعتين وافق الأسد على المشروع قائلاً: “أنا لا أريد تعطيل الاتفاق”. يقول خدام هنا ذهل كسينجر وفوجئ بالموقف وطلب أن يختلي بمستشاريه جانباً بضع دقائق، ومن المفاجأة أنه عندما توجه الى طرف القاعة تعثر وكاد يسقط”.
(مقطع من محاضر جلسات وزير الخارجية الأميركي هنري كسينجر مع الرئيس السوري حافظ الأسد خلال مباحثات بينهما في أيار 1974 للتوصل لاتفاق فصل القوات الإسرائيلية والسورية عقب حرب أكتوبر 1973).
بالأمس قصف الطيران الإسرائيلي مطاري دمشق وحلب، وأخرجهما من الخدمة، حتى أن طائرة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان عجزت عن الهبوط في مطار دمشق واضطرت الى استبداله بمطار بغداد. لكن بشار الأسد لم يرد على إسرائيل على جري عادته، بل استمر جيشه في دك أدلب. وهذا ليس غريباً أو جديداً على نظام امتنع منذ حرب أكتوبر 1973 عن إطلاق طلقة لتحرير أرضه في الجولان ولا سعى لتحقيق هذا الهدف المقدس متدثراُ بالقاعدة السمجة “نحتفظ بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين”.
بل سخر كل قدراته العسكرية وأجهزته الاستخباراتية العديدة والمتنافسة فيما بينها من أجل الدخول في حرب من نوع آخر: حرب الأزقة والشوارع في بيروت وسائر المدن اللبنانية من أجل القبض على القرارين اللبناني والفلسطيني وجعلهما مجرد ورقتين يطرحهما على طاولة الكبار ويقايض بهما إطالة عمر جبروت نظامه وبطشه.
حتى عندما استطاعت مليشيات القوات اللبنانية إيقاع الجيش السوري المرابط في لبنان ضمن قوة الردع العربية في فخ مواجهة الجيش الإسرائيلي إبان اجتياحه لبنان عام 1982، انكشف مدى هشاشة الجيش السوري الذي صار بعد حرب أكتوبر قوة للدفاع عن النظام لا أكثر، رغم الدعم السوفياتي النوعي الذي كان يتمتع به.
عقر دار النخبة الحاكمة
في الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر، تعرضت المدرسة الحربية في مدينة حمص الى هجوم بالمسيرات خلال احتفال بتخريج دفعة من الضباط، ما أدى الى وقوع مجزرة بين الضباط الجدد وأهلوهم الذين كانوا يحضرون المناسبة. يختزن هذا الحدث مجموعة من الرمزيات.
فالمدرسة الحربية في حمص هي عقر دار النخبة العسكرية الحاكمة في سوريا منذ نحو 5 عقود، ومنها تخرج عدد من الضباط الذين حكموا سوريا أو كان لهم نصيب من كعكة الحكم، وأبرزهم على الإطلاق حافظ الأسد نفسه، وكذلك نجليه بشار وماهر. أي أن الضربة كانت موجهة الى عصب النظام.
كعادته، لم ينتظر النظام السوري نتائج التحقيقات التي تتطلب فحص المسيرات أو ما تبقى منها والقنابل التي كانت مزودة منها وتتبعها لمعرفة الجهة المرسلة، بل أعلن خلال بضع ساعات عن مسؤولية الجماعات الإرهابية، وسارع الى دك أدلب وريفها بالقذائف. هكذا بلا أدلة قاطعة أو جازمة، راح جيش النظام ينتقم من الأبرياء المشردين والهاربين أساساً من بطشه وجبروته.
أين النظام من طوفان الأقصى؟
ما حجب عنه الضوء هو التقارير المستندة الى معلومات من مصادر عسكرية تشير الى صعوبة أو حتى استحالة إرسال الجماعات المسلحة في أدلب لمسيرات لنحو 120 كلم تفصلها عن حمص، وغالباً أن هذه المسيرات انطلقت من داخل حمص نفسها، الأمر الذي يفسر عدم كشفها من قبل الرادارات.
علاوة على أن القصف العنيف لأدلب لم يحل دون استهداف المستشفى العسكري في حمص ونعوش ضحايا المدرسة الحربية التي كانت على وشك الانطلاق من أمامه بنفس الطريقة. وقد بلغت حصيلة القصف والغارات حتى الآن حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان نحو 45 مدنياً بينهم نساء وأطفال، فضلاً عن عشرات الجرحى.
كما طال القصف بشكل متعمد ومركز 10 مدارس، 5 مستشفيات، 5 عيادات طبية، 4 مقرات لخدمات الطوارئ، 5 مساجد، 3 مخيمات للنازحين، محطة كهرباء. أي أن القصف كان بهدف سلب المقيمين في شمال غرب سوريا والهاربين من جحيم الأسد كل سبل العيش، وتحويل تلم المناطق الى مقبرة مفتوحة لأموات يتنفسون.
المثير أنه في الوقت الذي يستبيح الجيش الإسرائيلي سيادة سوريا ويعربد طيرانه في سمائها فيدك مطارات وموانئ ومقار رسمية أخرى بقذائف وصواريخ تجعل بعضاً منها قاعاً صفصفاً، يصمت نظام بشار الأسد صمت القبور، مكتفياً بعبارته الأثيرة التي صارت محل سخرية الشعرب العربية “نحتفظ بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين”. السؤال الذي يطرحه دائماً كثر من الناس، متى يحين هذا الزمان المنتظر منذ 5 عقود؟
أبعد من ذلك، لماذا لم يسارع جيش النظام الى استغلال طوفان الأقصى وحالة الإرباك التي تعم الجيش الإسرائيلي من أجل الانتقام منه وحفظ ماء الوجه، ولا سيما أن نظام الأسد، الاب والإبن من بعده، ما فتئ يطرح نفسه قائداً لمحور الممانعة ضد إسرائيل، وصاحب ختم العمالة التي يوزعها يميناً وشمالاً على دول وأنظمة قدمت للقضية الفلسطينية أضعاف ما قدم الأسدين.
المعادلة الذهبية
إحدى رمزيات حادثة المدرسة الحربية حمص وما أعقبها من قصف همجي، هي أن الجيش السوري هو جيش قصف المدنيين وسحلهم وإذاقتهم شتى صنوف التعذيب والأهوال، حتى أنه يمكن تأليف كتاب خاص عن فنون الجيش وأجهزة استخباراته المتعددة والمتلونة ومليشياته في فنون القهر والتعذيب. أما القضايا العربية والإسلامية والقومية فلا تعدو كونها كليشيهات يتغنى بها أركان النظام وزبانيته.
أسوأ ما في الأمر، هو أن نظام الأسد استغل التعاطف مع حادثة المدرسة الحربية للحصول على مشروعية شعبية من أجل الفتك بلا حساب. علاوة على استغلاله تركز الأضواء والاهتمام الإعلامي والشعبي على طوفان الأقصى من أجل الإيغال في قتل المزيد من المدنيين.
لا يزال القصف مستمراً لليوم الرابع على التوالي، حيث تقوم قذائف وصواريخ كان يفترض أن توجه نحو أرض الجولان المحتل، وأن تنصر شركاء المحور الواحد ضد العدو الغاشم، بدك أحياء سكنية بأكملها بشكل عنيف للغاية، وبأسلحة محرمة دولياً تشمل القنابل العنقودية والفوسفورية والنابالم، بما يجعل الموت قريباً من عشرات المدنيين العزل لا بل رفيق يومياتهم وأمسياتهم الكئيبة. حتى العائلات النازحة من هذا الجحيم المقيم لم تسلم من عسف “النظام المقاوم” وشبيحته الموزعين على الطرقات لتعذيب الناس وتشليحهم كل ما أمكن من مال و”أشياء أخرى”.
وفي الوقت الذي يحاذر فيه النظام التعرض بأي شكل من الأشكال للمتظاهرين في محافظة السويداء، حفاظاً على صورته التي قضى عمراً في رسمها ومحاولة إقناع الغرب بها وهي أنه “حامي الأقليات”، رغم كل ما قيل ويقال ضد الأسدين وأركان النظام فيها، نجد أن حامي الأقليات نفسه لا يتورع عن قصف المساجد ومنع إقامة صلاة الجمعة فيها. إنه العدل وفق المنظر الأسدي.
هذه هي حقيقة النظام: قوي على الأكثرية الضعيفة والمهمشة والمرمية، والتي لا تجد من يدافع عنها ولو بكلمة، وضعيف أمام الأقليات، ولا يكاد يُرى أمام الآلة الإسرائيلية التي لم تتوقف عن قصفه حتى خلال أيام “طوفان الأقصى”، لأنها واثقة من أن الرد لن يأتي أبداً. هكذا فعل في الثمانينات في حماة وحلب، وكذلك في بيروت وطرابلس والبقاع، ولا يزال الأسد الابن يطيل عمر نظامه عبر هذه المعادلة الذهبية.
*من الطرائف التي رواها خدام حول نقاشات بين القيادات العسكرية في اجتماع مع الرئيس حافظ الأسد حول مسافة الفصل بين القوات السورية والإسرائيلية المشار اليها في المقدمة، والتي كان الأسد يريد تخفيضها الى أقل من 25 كيلومتراً، نقل عن وزير الدفاع اللواء مصطفى طلاس قوله: “ليس هناك مانع من أن نوافق، وأنا أستطيع استعادة هذه المسافة”. هنا سخر منه خدام وذكره بأنه “من أجل 3 كيلومترات خسر 1200 دبابة، ومن أجل 25 كيلومتراً سنخسر الجيش كله”. مذاك، لا يزال الحال على ما هو عليه، ولا تزال الكيلومترات التي جرى تخفضيها الى 20 على حالها.
*(نص جلسات المباحثات مرفقاً بالوثائق الأصلية تجدونه كاملاً في موقع مجلة “المجلة”).